السبت، 24 سبتمبر 2016

*✿▒ على حافة جهنم『 الفصل الثاني عشر』▒✿*

على حافة جهنم
الفصل الثاني عشر




Written By : Ňoồr


~ تحت وطأة الألم ~


كان جالساً في غرفته وهو يبحر بأنامله بين شعيرات رأسه .. تارةً يزفر .. تارةً يتقلب على السرير الذي يجلس عليه بمللٍ .. وتارةً آخرى ينهض ليمسح الأرض ذهاباً وإياباً .. إنه الإسبوع الثاني بعد حادثة مقتل زوجة الضابط .. ومريم لم تخرج من غرفتها سوى مرة واحدة عندما استدعاها عمها ليحدثها بشأن عودة ابنته .. تلك الفتاة هل تنوي أن تهجر العالم كلهُ أم ماذا .. شعر بالضيق الشديد بسبب الوحدة التي صار منغمثاً فيها في الآونة الأخيرة .. أو في الواقع اشتاق لتلك الفتاة رقيقة المظهر عنيدة الطباع .. ذات القلب الناصع البياض .. الذي لم يعرف يوماً الكره إلا عندما لوثته الحياة بقسوتها وجباروتها المُميت .. أغمض عينيه يسترجع ذكرياتهما معاً .. ليس فقط من وقت قدومه للقصر وإنما أيضاً بعضُ ذكريات الطفولة البسيطة التي جمعتهما سوياً .. في الواقع ما جعلها مُميزةً لديه  هو اتسامها بالبساطة .. من وجه نظره أن الشخصية البسيطة في الشكل والتعامل والتصرفات ظاهرياً تعني الفخامة في المضمون الداخلي ...
زفر أنفاسهُ مجدداً وقفز من فوق سريره مغادراً غرفته .. أوصلته قدماه حيثُ غرفتها .. وضع يده على المقبض وطرق الباب باليد الآخرى .. كانت تجلس بالداخل فوق سريرها .. تضم قدميها إلى صدرها دافنةً بهما رأسها تتوالى زفراتها الواحدة بعد الآخرى دون أن تذرف دمعةً واحدة ؛ ففي الواقع قد ملّت الدموع .. رفعت رأسها ببطء تنظر للباب .. فأخبرها قلبها بأنه هو .. طرقاته كانت أقرب ليدٍ تربتُ عليها من يدٍ تطرق بابها .. أجابت بحشرجة : انا كويسة يا هنري معلش سبني , محتاجة اكون لوحدي شوية
قطب حاجبيه باستياءٍ .. وقام بفتح الباب والولوج للداخل متجاهلاً حديثها السابق .. وقف أمامها عاقداً ذراعيه إلى صدره : لحد امتى هتفضلي حابسة نفسك كدا ؟
ابتلعت غصتها وأكملت ببعض التوتر : انا مش حابسه نفسي انا عايزة اكون لوحدي شوية لو ينفع يعني
تقدم بضع خطواتٍ نحو سريرها ثم تقعده وهو ينظر لها مكملاً حديثه : هتفضلي لوحدك طول عمرك ؟ عجباكي اوي اوضتك وسريرك عشان تفضلي جمبهم كل دة ؟
- هنري لو سمحت
- لو سمحتي انتي يا مريم , لو سمحتي انتي كفاية اللي بتعمليه في نفسك وفيا
- انا حرة ف نفسي ومعملتش فيك حاجة انا
- لا عملتي , اما بشوفك كده بتعذب يا مريم , بتعاقبي نفسك على ايه فهميني , بلاش كدا , عمك اللي اخد باله من انك حابسة نفسك ليل نهار لا بتاكلي لا بتشربي ولا بتعملي اي حاجة ف حياتك
ابتسمت بخسرية وهبطت من فوق السرير تنظر له عاقدةً ذراعيها إلى صدرها ووجهها مليء بالتهكم : هيقلق عليا مثلا ؟ طب ازاي هيقلق على وحدة مستعد يقتلها من غير ما يرمشله جفن , كفايا كدب بقا , عشت حياتي كدبة كبيرة اوي , اكبر حتى من قدرة تحملي ليها مهما حاولت ( صرخت به )
احمرت عينيه ونهض واقفاً أمامها مِن ثَم أشار عليها بسبابته بطبقة صوت حادة : والكدبة دي بقا الحل منها انك تستخبي ؟
- انا مش بستخبي , انا بس بريح نفسي اللي تعبت اوي , مش قادرة احتك بحد انا تعبت وانا حاسة بالذنب لكل اللي حواليا
- هيتشول مات , الدموع هترجعه ؟ مرات الظابط اتقتلت , انك تحسي بالذنب على حاجة ملكيش اي يد فيها وتحبسي نفسك , هيرجعها ؟
- انت عايز مني ايه يا هنري ؟
- تفوقي يا مريم , ارحمي نفسك وكفايا دراما , دور المجروحة دا بقا اوفر اوي
- انت شايف اني بعمل دراما فارغة ؟ ( صرخت به من جديد ودموعها تتساقط )
- انا شايف ان دور المجروحة عاجبك اوي , وعايزة تبقي البطلة اللي يا عيني حاسة بالذنب تجاه الناس , فوقي بقا , فوفي ونفسك دي ارحميها
- ملكش دعوة بيــا !! ( دفعت آحد الزهريات لتسقط اشلاءاً )
تقدم وبغضبٍ وصل مداه أمسك بمعصمها حتى كاد يعتصره بين يديه وتحدث ضاغطاً على أسنانه : بعد ما ضحيت بشرفي كدكتور , وسكت عالقتل , وشوفت بعيني , واستغنيت عن الادلة , وضيعت تعب هيتشول , ( صرخ بها ) وكل دة عشانك تقوليلي ملكش دعوة بيا ؟
- ليـه ؟ عملت كل ده ليه ؟ عشان تحسسني بالذنب اكتر ؟؟
ابتسم بسخريةٍ ثم خفف قبضته على يدها : عارفة ليه ؟ عشان انا زي الاهبل , ( ابتلع لعابه مكملاً بتلعثُم ) عشان انا بـ .. ( أغمض عينيه وأعاد فتحهما مطلقاً زفرة عميقة ) عشان انتي اخت اعز صاحب عندي واللي لسه بعتبره نفسي
أفلت يدها تماماً والتف ليغادر الغرفة .. فبلا مقدماتٍ أو شعورٍ منها .. أخفضت رأسها ودموعها مازالت تتساقط وهتفت بما اهتز له كيانه : انت كداب ! , ( التف ينظُر لها بصدمة .. فرفعت رأسها مكملةً ) عشان انت بتـ ...
تعالى هتاف الخادمة بالخاراج ليسكت الحديث بينهما : انسة مريم , انسة مريم
التقطت مريم أنفاسها ومرت من جواره مصطدمةً بكتفه عن قصدٍ وقامت بفتح الباب والخروج : ايوة !
انحنت الخادمة : عمك عايزك ف مكتبه
أومأت لها وتوجهت حيثُ يوجد عمها .. بينما هنري خرج من غرفتها بل القصر بأكمله متسكعاً في الطرقات ليخفف عن نفسه قليلاً من الضغط .. ولجت للمكتب وبتعابير باردة : ايوة يا عمي ؟
زفر العم انفاسه باستياء : يا مريم انا قلقان عليكي , يا بنتي طمنيني
ظهر شبح ابتسامة ساخرة على اطراف شفتيها : انا كويسة , هما شوية تعب بس مش اكتر
نظر لها مطولاً مِن ثَم أكمل : عملتي ايه مع نورة ؟
جلست على الأريكة في مقابله وهي تعبثُ بأصابعها : كله تمام , هتكون هنا قريب اوي
***
اقتربت عبير من السيارة المرابطة بجوار مدرية القاهرة .. حدق بها ييسونغ الذي ينتظرها في السيارة بترقبٍ كون ملامحها مستاءة وهناك بعضُ أثارٍ للدموع .. قطب حاجبيه متساءلاً بعدما صعدت السيارة : خير عملتي ايه ؟
أشارت للطريق معلنةً بصوتٍ مُحشرج : شوف هتودينا فين  ( أومأ منطلقاً بينما عادت لتكمل ) كيبوم حالته صعبة اوي , عمري ما شوفته كدا متبهدل ودقنه بارزة , هدومه مش مظبوطه , عينه وارمة ! كيبوم اللي عمري ما شوفته ضعيف او بيعيط بقا شبه البسكوتة اللي اتكسرت ميت حته , احساس بالذنب قاتلني يا ييسونغ , حاسة اني زبالة اوي
توقف ييسونغ عن القيادة ونظر لعينيها مباشرةً : انتي اللي بتقولي كدا ؟ ده انتي طول عمرك بتقولي متحسش بالذنب على حاجة معملتهاش ايدك
نظرت له ودموعها تتساقط : انا اللي خلتهم كدا ! انا مش قادرة استحمل اشوف حد كدا , مقدرتش اديله الـ CD  لو كان شافه  اكيد كان هيحصلها  بقا ضعيف بطريقة تخوفك انك تلمسه لحسن يتكسر
أمسك ييسونغ بيدها واحتضنها بين كفيه وهو يربُت عليها .. رفعها لمستوى شفتيه وقبلها بنعومة : طيب مهما كان اللي شفتيه ممكن تهدي ؟
نظرت لعينيه التي تفيض بالحنان والحب .. انتابتها قشعريرة عندما أجرت مقارنةً سريعة بين هذا الكائن الملائكي الذي يدافع عن الحق والخير وفي سبيلهما ضحى بجزءٍ كبير من ثروة عائلته المرموقة .. بجانبها أينما كانت .. يساندها .. يحميها .. يخفف عنها .. يحبها .. وهذا المغرور المتعجرف .. صاحب العقل الشيطاني الذي لا مثيل لهُ .. الملوثة يديه بالدماء .. أيُ كفةٍ سترجح بينهما؟ وكلاهما شعرت يوماً بأنه يتغلغلُ بداخلها ..
 نعم أحبت كيوهيون حد الهوس .. ولكنها في ضعفها اختبأت بين ثنايا صدر ييسونغ متمسكةً به .. لتشعر بنيران قد أضرمت بداخلها .. ولكن يبقى الحبُ الأول حاجز عليها .. لحطة أعليها تحطيمهُ أولاً ؟! امتدت يد ييسونغ لتُزيل دموعها وتُفيقها من تلك المُقارنة الخاسرة .. أمسكت يده بقوة ثم ألقت بنفسها إلى أحضانه .. أغمض عينيه تاركاً المجال لنفسه لتستعيد هيئتها .. تاركاً مشاعره لتتمتع بقربها الذي صنعته بيدها .. مصبراً قلبه الذي ينتحب مُذ أحبها بأنها طالما تلجأ لأحضانه هو فلا بُد من أن تكون له يوماً .. ظلا هكذا لفترةٍ ليست بالطويلة ولا القصيرة .. ثم ابتعدت لتسكن على كرسيها
نظر لها متساءلاً بطبقة صوته الناعمة حتى في الكلام تبدو كنايٍ يعزفُ اوركسترا أوروبية فخمة : احسن ؟ ( أومأت لهُ فابتسم مكملاً القيادة .. ساعة كاملة من القيادة ووصل أمام منزل ذا طرازٍ فاخر .. ترجل من السيارة وهي كذلك ثم أشار عليه مكملاً حديثه السابق ) محبتش جو الاوتيلات , فأجرت بيت صغير كدا نقضي فيه الفترة دي
نظرت للمنزل بإعجابٍ شديد وعندما استرعتها كلماته التفت تنطر له بتساؤل : استنى , انت قصدك هنعيش هنا احنا الاتنين ؟
أومأ بابتسامةٍ لئيمة وعلى الفور قام بفتح الباب والولوج للداخل صائحاً : متخافيش مش هعمل فيكي حاجات وحشة
اتسعت عينيها وركضت للداخل أيضاً وبعنفٍ ركلته في قدمه : متقدرش اصلا
- ما انتي اللي اوفر , احنا كنا بنبات ف المكتب سوا عادي يعني ( أمسك قدمه وهو يقفز من الألم )
بنصرٍ مرت من جواره ودلفت للغرفة الأكبر حجماً .. ألقت نفسها على السرير واضعةً ذراعيها الاثنين خلف رأسها معقودين .. بينما رفعت إحدى ساقيها للأخرى وهي تبتسم ببلاهة : انا هاخد الاوضة دي
استند إلى حافة الباب عاقداً ذراعيه بعبوس : خديها ( تمتم وهو يغادر نحو الغرفة الأصغر ) عيني كانت هتطلع عليها من الاول
أغلق الباب خلفه فابتسمت معتدلةً في نومتها واغلقت عينيها وهي تتذكر ما حدث بينها وبين كيبوم ... كما العادة كان جالساً خلف مكتبه .. دافناً رأسه بين ثنايا ذراعيه المعقودان على المكتب .. وهو بالكاد يستطيع التنفس .. ملابسه غير مُنظمةٍ .. شعره مبعثر .. ذقنه بارزة .. تلك هى حالته التي لم تتغير منذ إسبوعين .. دلفت للداخل وهى عاقدة ذراعيها إلى صدرها .. وبصوتها الجهوري اعلنت : كيبوم
الصوت كان مألوفا بالنسبة له .. اكفهرت ملامحة ورفع رأسه ببطء ينظر لمكان الصوت .. فإذا بعينيه تتسعان قائلاً بتلعثم : عبـ .. ـير !
تقدمت بخطواتٍ ثابتة لتقف قُبالته .. التهمته بنظراتها المُتفحصة لحاله البائس .. كلا ليس هذا كيبوم ! ليس هذا ضابطُ الشرطة الذي كان أول لقاءٍ يجمعهما هنا في المدرية عندما آتت بثورةٍ عنيفة كونها علمت بمعاملته الحسنة جداً لأحد المتهمين في جريمة قتلٍ بشأن آحد المسؤلين المعروفين بحسن سيرتهم .. يومها صنعت ضجة كبيرة بالخارج وآخذت تصيح بعبارتٍ مُسيئةٍ له ..
خرج يومها وطلب منها الولوج لمكتبه ليتحدثا بهدوءٍ .. ولطريقته اللطيفة في التعامل مع ناقديه وهي بالذات التي كتبت عنه الكثير في مجلتها على عكس ضباط الشرطة الآخرين كان لطيفاً فظنته يودُ مُساومتها .. ناظرته وهاجمته بشراسة بأنه متواطئ مع من لهم مصلحة في مقتل هذا المسئول .. ولكنه وبالأدلة أثبت لها بأن المُتهم بريءٌ تماماً وإنما فقط مورط ليحجب العيون عن المُتهمين الأصلين .. وكصحفية تبحثُ عن الحقيقة طلب منها المساعدة عوضاً عن المهاجمة .. اقتنعت بما أعلنه لها وساعدته كثيراً حتى تم إلقاء القبض على الجناة الحقيقين ومنذُ دلك اليوم وهم أصدقاء عملٍ .. حتي سافرت منذُ حوالي أربعةُ أعوامٍ برفقة ييسونغ للولايات المتحدة لسببٍ لا يعرفهُ غيرهما ...
اقتربت من المكتب واستندت عليه براحتي يديها قائلةً بثقةٍ ظاهرية بينما تهتز من الداخل : قبل اي حاجة هقولها , هعترفلك اعتراف وبعدها حدد ان كنت هتسمعني ولا هتقتلني , ( رمقها بعيونه الباهتة تلك بتعجبٍ وهو يحاول ابتلاع غصته بصعوبة فأكملت ) انا اخت دونغهي , دونغهي اللي قتل اختك !
اتسعت عينا كيبوم حتى كادتا تقفزان من محجريهما .. ونهض كمن لدغه عقرب مُمسكاً بذراعها بعنفٍ حتى كادت أظافره تخترقُ جلدها .. وعيناه محتقنتان تضجان بالدماء .. طيف نور يلوح أمامه وهي مُمزقة كأنما هي قطعةُ قماشٍ .. فراحت دموعه تتساقط بغزارة .. نظرت له عبير بضعفٍ وحسرةٍ على حالته تلك .. أيُ ألمٍ صنع منه هذا الكائن الذي تراه الآن ؟! ظل هكذا للحظات بسيطة .. ثم ترك يدها وهبط جالساً على كرسيه يبكي بحرقة وشهقاته تتوالى الواحدة بعد الآخرى .. رفع نظره بضعفٍ ينظُر لها بعينين ثملتا ألماً : ليه ؟ جاية دلوقت تقوليلي كدا ليه ؟
جلست على كرسيٍ في مقابله ترمقه بثقة : عشان نور محتاجة حد يجبلها حقها  ( نظر لها بدهشة فأكملت ) من اربع سنين دونغهي وكيوهيون اللي ضحيت بعمري عشانهم جالهم فرصة عمرهم زي ما بيقولو , يكونوا رجالة كيم اكبر تاجر للأعضاء ف مصر , مقابل ان كيوهيون يتحول من دكتور صغير مش متثبت لرئيس مستشفى ضخمة , ودونغهي الظابط اللي برتبة حديثة , ياخد رتبة اعلى ويبقا باشا , زائد الفلوس اللي كل واحد هياخدها والعيشة اللي هتعوضهم عن الفقر واليتم وعمرهم اللي قضوه ف الشارع , كل واحد فيهم عمته الفلوس وخلته يطمع ويبيع نفسه , ولما فشلت اني ابعدهم عن الطريق ده فكرت اني لما اسافر واسبهم هيفكرو شوية كمان , بس اكتشفت اني كنت مخدوعة فيهم زيادة عن اللزوم , فقررت اني هدمر كيم اللي قتل دونغهي وكيوهيون اللي اعرفهم , ييسونغ رئيس الجريدة بعلاقاته , وبشغل اربع سنين قدرت اشتري ناس من حراس كيم واخليهم عيونا , وجمعت ادلة تدينه شخصياً , واخر خطوة , واحد من اللي كانوا بيشتغلوا معاه تحت ايدي ويقدر يخلصنا منه , بس محتاجين زي ما بتقولوا الحبكة اللي متخليهوش يعرف يتنفس , ودي عليكوا انتوا
طوال فترة حديثها كانت ملامح كيبوم مشدوهة وانفاسه تتلاشى شيئاً فشيئاً .. ليتكِ آتيتِ مبكرةً .. ليتكِ آتيتِ لتحمي روحاً من أن تُزهق .. روحٌ جابهت لتبقى ولكنها فشلت ورحلت بقسوة .. ليتكِ منعتِ رحيل فؤادي برحيل شقيقتي ووالدتي .. ليتكِ عففتِ عين ليتوك من رؤية مقتل روحه بنفسه .. ليتكِ لم تسمحي لتلك الغيبوبة بأن تبتلعه بين ظُلمتها الموحشة .. ليُصبح طريح الفراش .. مُلازماً للأجهزة الطبية ليبقى على قيد الحياة .. ليتكِ منعتي انفسنا من الدعاء كي لا يعود لرشده فيفقد حياته بعد مجابهة شرسة مع الألم ..
ليت كُل هذا الجحيم كان كابوساً يراه ! 
غادري عبير .. يكفيني ألم التخيُل لن أتحمل رؤية ما حدث لها .. فلتبقيه معكِ  .. الأدلة والاثباتات .. كل شيء أبقيه معكِ .. فلتسكنِ الآن فمازالتُ أنا الآخر عاجزاً عن التفكير أو التنفيذ .. فلتعطيني مهلةً أستعيد خلالها رباطة جأشي وأتمكن من اطباق قبضتي على أعناقهم .. انتظري كي يعود ليتوك لدنيانا .. انتظري كي يُشفي غليلة ويطفأ ناره هو الآخر .. صبراً !
***
في الظلام الدامس ومع الهدوء المُهيمن .. صدحت بداخله أصواتٌ مُزعجة .. ذكرياتٌ جعلته تحت وطأتها لسنين .. فراقٌ ألهب روحه فراح ينتقم من روحه .. ولد بدون أب .. بدون أمٍ .. ذاق مرارة اليُتم .. تشرد في الشوارع يجلد البرد جسده بسياط القسوة .. قسوة المُجتمع الذي يرى بأن الطفل الناجم عن علاقةٍ غير شرعية هو آحد الأطراف المُدانة .. انغلقت بوجهه كل أبواب الملاجئ .. فرت منه جمعيات حقوق الأطفال ذات المبادئ الواهية .. نفر منه جميع من يتبنون الأطفال .. لتتبناه طفلة تصغرهُ بعام !
 طفلة بشرتها كالحليب شعرها الأسود الغجري كليلٍ قاحل .. قامتها القصيرة وعيونها اللوزية سحرته ! بعد ثمانية أعوام قضاها أسفل الجسر مع أطفال الشوارع يحتضنه البرد و يُشار له باستنفار على أنه السفاحُ الصغير .. ليخلق منه المُجتمع شخصاً عدوانياً شرساً يرى في الجميع من أنجباه لهذه الحياة وتركاه يُحاسب على ذنبٍ لم تقترفهُ  يُمناه .. فإذا بها كنسمةٍ صيفية داعبت روحه وضمضت كل جرح بداخله ..
في هذا اليوم المُمطر بغزارة .. ابتل وهو يبحث بين المحال عن شخصٍ بقلب بشر يمنحه طعاماً حتى لو كان فاسداً .. يمنحه قطعة ملابس تدفئه مهما كانت بالية .. ولكن يبدو بأن الرحمة قد انتزعت من قلوب الجميع ناحيته .. تقعد الرصيف أسفل المطر .. يحتضن جسده الذي يرتعد بطريقةٍ مخيفة وأطرافهُ مُتشنجةٌ بالكامل .. جلده مائل للزرقة وشفتاه بيضاء .. كان يبكي حظه ويبكي القسوة التي لا يعلم أنى لهم بها ؟! ليجد من خلفه تلك الطفلة التي خلعت عنها المعطف ووضعته عليه .. نظر لها بدهشة ليجدها تبتسم بلطفٍ .. ببراءة وحنو لم يعهدهُ يوماً .. احتضنت يده بين يديها الصغيرة .. أنهضته واختبأت معه من المطر في مدخل آحد البنايات ...
- انتي مين ؟
- اسمي عبير  انا عايشة في ملجأ قريب من هنا , اصل بابا وماما راحوا عن ربنا من اربع سنين , وانا عندي سبع سنين , وانت ؟
- معرفش , انا مليش اسم !
- ازاي ؟ كل حد ليه اسم , انا عبير , اخويا دونغهي , استاذة الملجأ ( ضحكت بمشاكسة ) اسمها سنية الغبية , احنا مسمينها كدا عشان بتضربنا
- يا بختك على الاقل ليكي اسم واخ واب وام ومكان تعيشي فيه
- خلاص امممم , بص انا هقولك كيوهيون , وهتعيش معانا في الملجأ ايه رأيك ؟
- حلو الاسم اوي , بقالي تمن سنين عايش من غير اسم ( ضحك بطفولية )
- خلاص يا كيوهيون بقا عندك اسم
- هو انتي هربانة من الملجأ ليه ؟
- بحب اشوف المطر , بس برجع تاني من غير ما حد يحس
- هو انا فعلا ممكن اعيش معاكي في الملجأ ؟
- اكيد , بس من غير ما نقول لسنية الغبية عشان مش هتوافق , في ناس كتير في الملجأ
- طب ازاي ؟
- تعالى معايا هوريك
- طب خدي الجاكت بتاعك
- لا حرام انت بتترعش من البرد
- انتي كمان بتترعشي اهو , كمان هو مش على ادي
- خليه بس يدفيك شوية انا لبسته يامة
أمسكت يده من جديد وركضا وصولاً للملجأ .. وكالعادة كان دونغهي ينتظرها في الشرفة ليفتح لها الباب بحذرٍ كما يفعلان دائماً .. يومها تعجب بشدة من هذا الفتى معها .. فعرفته له على أنه صديقها الجديد .. تعرف إليه دونغهي .. ومنحه ثوباً من ثيابه وخبئته عبير في القبو .. استمر الوضع شهراً كاملاً .. الجميع لاحظ سعادتها الغريبة .. وتصرفاتها المريبة .. تأكل نصف طعامها وتأخذ الباقي لغرفتها .. معتذرة بأنها تجوع ليلاً .. وفي الليل تتسلل له وتمنحه نصف طعامها ..
منحته معطفها ليفترشه على الأرض الباردة ويستدفء به .. كانت تحدثه كثيراً .. وشاركها دونغهي تلك الأفعال .. حتى قوت علاقتهم كثيراً .. وفي يومٍ مشؤم اكتشفت أستاذة الملجأ الأمر .. وأبرحت عبير ضرباً .. وهذا اليوم أيضاً كان اول إشراقةٍ لشمس طموحهم التي طغى نورها فيما بعد .. يومها حاولت الأستاذةُ أن تضرب كيوهيون وتطرده كونه تسلل لداخل بغير علم أحد .. ولكن عبير ركضت لتقف أمامه وبكل قوتها صرخت بأنها من آتت به إلى هنا .. كانت تُمسك بعصا غليظة فراحت تضرب بها عبير التي صرخت تتألم .. عندها ولهول المنظر جُن جنون دونغهي .. وركض نحوها وبمهارةٍ غربية أمسك طرف العصا وجذبها من يدها ..
 حاولت ضربه هو الآخر فراح يضربها بالعصا على أطراف يدها .. حتى استسلمت وراحت تبكي كالأطفال وهي تصرخ به وتسُبه .. أفسحت لهم الطريق فإذا بكيوهيون يمسك علبة الطعام التي منحتها له عبير عند دخولها .. ويلتقط المعطف ومِن ثَم ساعدها على المشي وهي تبكي وتتحسس أثار الضرب التي اعتلت جسدها بالكامل .. تبعهم دونغهي حتى خرج ثلاثتهم من الملجأ ...
- هنروح فين يا دونغهي ؟ عبير تعبانة ومش هتقدر تمشي اكتر من كدا
- صدقني مش عارف , مفيش ملجأ هيرضى بينا
- اسمع انا عندي فكرة , احنا نسافر لبلد تانية محدش يعرفنا فيها , وهناك نشتغل انا وانت ونصرف امورنا
نظر لعبير التي تتأوه بأسى لحالها وراقب قطرات الدماء المتساقطة من جروحها .. فاقترب من كيوهيون الذي يسندها على كتفه وقام بحملها وضم جسدها الصغير بين أحضانه : الموضوع مش سهل احنا محتاجين فلوس السفر , وبعدين احنا هنسيب عبير كدا ؟ دمها هيتصفي
- هاتها كدا
أنزلها دونغهي مجدداً .. فوضع كيوهيون المعطف أرضاً وجعلها تستلقي فوقه .. أخرج من علبة الطعام التي أحضرها معه زجاجة مياه صغيرة للغاية .. وشرع يمزق من ثيابه قطعاً قماشية .. سكب الماء على أحدها وبنعومةٍ وهدوء بدأ يُزيل الدماء المستقرة على جروحها .. كانت يده ماهرة حنونة يحاول قدر الإمكان ألا يؤلمها .. وفور انتهاءه وضع القطع المتبقية على الجروح .. كانت تنظر له بعيون طفلة معجبة للغاية بمهارته .. سعيدة باهتمامه بها كل هذا الحد .. وعندما انتهى ولمحها تحدق فيه ابتسم بخجل وتوردت وجنتاه .. كانت ستتحدث لولا أنه وضع الطعام في فمها بسرعة ليسكتها ... حاولت منعه لأن هذه حصته لليوم .. ولكنه رفض وأصر أن تتناوله حتى آخر ذرةٍ فيه .. ودونغهي بجانبها يربت على يدها الآخرى بحنان .. وبمجرد انتهاءها شعرت بأن الألم هدأ فنظرت لهم بدهشةٍ وسعادة طفولية ...
- عارفين انا فكرت ف ايه دلوقت ؟
- قولي يا ست العبقرية
- بطل تتريق يا كيو , وعلى فكرة مفيش عبقري غيرك اصلا , ( ضحكت بطفولية بحتة ) عارفين انتوا لازم تطلعو امممم انت يا دونغهي ظابط عشان تساعد الناس الضعاف ومتخليش سنية الغبية تضربهم ( زمتت شفتيها بحزن فربت على يدها بابتسامة حنونة .. ابتسمت لهُ ونظرت لكيوهيون مكملة ) وانت يا كيونا تكون دكتور عشان تساعد الناس وتخفف وجعهم
ضحك دونغهي بسخرية واردف : وانتي بقا تطلعي ايه ؟
شدت يدها منه لسخريته من أحلامها الجميلة .. فربت كيوهيون على كتفها قائلاً : هتطلع صحفية عشان تكتب عن الحاجات الحلوة اللي بنعملها , وتفتخر ان هي اللي خلتنا دكتور وظابط بيساعدوا الناس ( قطب حاجبيه ) الناس اللي مرحمتناش , ولا حتى هترحمنا , الناس اللي بتدوس على بعض وتوجع بعض ومش بتيجي غير على الضعيف , الناس اللي مش هيسمحولنا نحققوا حلمنا ( شد على قبضة يده هامساً بخفوت ) الناس اللي مع اول فرصة هتجيلي هنتقم منهم
- ليه يا كيوهيون مش هيرضوا ليه ؟
- انتي فاكرة الموضوع سهل يا عبير ؟ لازم ندخل مدرسة ونذاكر كتير ومحتاجين مصاريف وكتب , الحياة مش سهلة اوي كدا
- ليه بقا الناس كلها بتتعلم
- عشان الناس كلها عندها اب وام ( تقوست شفتيها للاسفل وراحت دموعها تتساقط .. نظر لها بإشفاق وإذا به يجذبها لأحضانه ويربتُ عليها للمرة الأولى لتتوالى بعد ذلك المرات ! .. أردف بحنو ) انتي نفسك اوي تحققي اللي قولتي عليه ؟ ( ابتعدت عن أحضانه وهى تجففُ دموعها واومأت تنتقل بنظرها بينه وبين دونغهي .. ابتسم قائلاً ) وعد هنفذلك حلمك
ومن هذا اليوم أصبح الثلاثة كأنهم جسدٌ واحد .. كيوهيون هو العقل المفكر ودونغهي هو القوي المنفذ .. وعبير هي الأم الحنون .. يومها صعدوا القطار المسافر إلى الارياف .. وكالعادة فالقطارت المسافرة للارياف لا أحد يهتم بها .. أبوابها غير موجودة وشبابيكها محطمة ومعظم المقاعد مسروقة .. ونادراً ما يمُر ( الكمسري ) ليقطع التذاكر .. وصلوا إلى بلدة ريفية .. طلبوا العمل من أحد المزارعين .. أخبروه انهم يتامى لا وطن لهم ولا سكن هربوا من معلمة الملجأ بعد أن أبرحت عبير ضرباً ..
 رق لحالهم عندما  رأي حال الطفلة البائس الذي يؤلم القلوب .. منحهم غرفة من البوص في الأرض التي يعملُ على زراعتها وأصبحوا يعملون لديه .. كان ثلاثتهم يجتهد في عمله ويبذل قصارى جهده .. حتى عبير الفتاة صاحبة الجسد الهزيل كانت تعمل ما فوق طاقتها .. ولكنها لم تعتني بالعمل فقط بل بهم أيضاً .. أحبهم المزارع كثيراً وزاد راتبهم الصغير لشدة جديتهم في العمل ..
وبقدوم موسم الدراسة أفصحت عبير له عن رغبتهم بالالتحاق بالمدرسة ووعدته بأنهم لن يتكاسلوا في عملهم .. ساعد كيوهيون على أن يثبت وجوده في الدولة عندما استخرجت له الحكومة اسماً وهمياً كما تفعل دائماً مع من لا أب أو أم لهم .. بالطبع هذا بعد أن صارحه كيوهيون بحقيقته .. ولكن الرجل لم يتعفف منه كما فعل الباقون بل ساعده ..
 التحقوا بالمدرسة بعد أن اجتهد المزارع ليخرج لهم شهادات صالحة من الحكومة .. ومرّ عامٌ كامل وهم يدرسون ويعملون باجتهاد .. حتى توفي المزارع وكانت تلك نكبتهم الجديدة فبعد أن مات من كان أباً لهم أسرع مما ظنوا .. باع الورثة الأرض والمنزل وعادوا للشارع مجدداً .. مرّت أيامهم صعبة معبئة بالذل والمهانة .. يتخبطون وهم في عمر الزهور بويلات الحياة .. عملوا في كل شيء .. اجتهدوا قدر المستطاع .. ساندتهم عبير في اوقات اليأس والضعف كانت بحق الأم التي فقدوها ..
تأرجحت بهم الحياة ولكنهم قاوموا حتى النهاية .. مسكنهم بيتٌ مهجور .. طعامهم فتات .. عملهم شاق .. ليلهم دراسة .. لاقوا الكثير من الاضطهاد مجدداً .. ولكن هذه المرة ليس من المواطنين العاديين وإنما الفتيان المجرمين مَن هم أكبر منهم سناً .. حاولوا استعبادهم .. والسطو عليهم مراتٍ كثيرة .. ربما أيضاً ذات مرة حاولوا خطف عبير لبيعها كخادمة للطبقات الثرية ..
تجمعوا على كيوهيون مَن حاول حمايتها بكل طاقته .. ولكنه مازال الأضعف حتى وصل دونغهي منزلهم المهجور بعد يوم عملٍ شاق مع البناه لتوفير النقود لكتاب احتاجته عبير في دراستها ..  ورأى هذا المشهد .. ربما صراخ عبير ودموعها واستنجاد كيوهيون المضرج بدماءه وكلماته التي يستحثه بها على تحطيم هؤلاء .. جعلت منه للمرة الأولى وحشاً كاسراً ضاق ذرعاً بالحياة التي لا ترحم ..
 ما كمية الألم التي من المفترض أن يشعروا به لترحمهم .. احمر وجهه وهجم عليهم يضربهم بوحشية حتى ارتعبوا وركضوا كالفئران ينتحبون .. ومن ذلك اليوم تغير دونغهي الأحمق الساذج كثيراً .. عيناه حادة ويهتم بتدريباته مستخدماً العُصي والأشياء الثقيلة البالية .. ويزاول الأعمال الشاقة .. حتى أصبح قوة لا يُستهان بها .. وربما كلمات كيوهيون الحادة المليئة بالسخط على البشر كانت دائماً ما تفجر براكين غضبه وتحوله لوحش ..
وبرغم قوته إلا أن ذكاء كيوهيون وحديثه استطاعا أن يجعلاه مقيد بأوامره .. مرت السنين على هذا الحال و الاثنان رهن إشارة عبير المصدر الوحيد للحنان والبراءة لهما .. حتى شبوا عن الطوق ووصلوا للمرحلة الجامعية وكلٌ حقق ما يريد .. حتى دونغهي الذي كان من الصعب التحاقه بكلية الشرطة نظراً لخلفية حياته .. تم قبوله لأول مرة وحصرياً لأجل مهارته وفقط ..
واخيراً وبعد مواجهةٍ شرسة مع الحياة فازوا بالغنيمة وحققوا حلماً صغيراً كم عانوا لأجله .. الراتب الأول كطبيبٍ شهد الجميع بذكاءه الفريد ومهارته العالية .. المهمة الأولى كضابط قوي البنيان .. المقالة الأولى كصحفية شجاعة أسلوبها ساحر .. الحب الأول .. الحب الطفولي السرمدي الذي تعاهد عليه كيوهيون وعبير .. القبلةُ الأولى التي انتشلها كيوهيون من عبير بعد نجاح أول عملية جراحيةٍ يُجريها ..
 الرابطة الأزلية التي تعاهدوا ثلاثتهم على بقاءها .. منذُ أربع سنواتٍ انهدم كلُ هذا .. عندما أعجب ييسونغ رئيس عملها الشاب الوسيم بها وبمهارتها وقدم لها أول ترقية في حياتها .. عندما أحبها وحاول التقرب منها .. عندما علم كيوهيون أنه يعمل في مشرحة للسفاحين وليست مشفى خيرية لغير القادرين .. عندما خُير واختار المال والسلطة .. عندما باع نفسه وضميره لكيم .. عندما دنس معطفه الأبيض بالدماء .. عندما أعماه المال .. والرغبة في الانتقام من البشر الذين عذبوا طفولته ..
عندما أقنع دونغهي وأخيراً أن يدنس هو الآخر مهنته .. عندما دخلوا في صراعاتٍ ومشاحناتٍ لا تنتهي مع عبير لتعيدهم لرشدهم .. تصرخ بهم .. تستحلفهم بالله .. تذكرهم بأحلامهم والوعود التي قطعوها سوياً .. تستجدي حب كيوهيون تناشد قلبه .. تصرخ بدونغهي رافضةً انصياعهُ الدائم لكيوهيون .. حاولت بكل طاقتها ولكن فشلها كان مؤسف .. كان مخزي عندما سافرت مع ييسونغ مقسمةً على تدمير كيم الذي قتل من أحبت وخلق شخصاً آخر .. حتى لو كلفها الأمر أن تدمرهم قبلهُ .. فهم بمنتهى السهولة دمروا ما حلمت به عمراً كاملاً .. دمروا حبها وأحلامها .. دمروا ما كانت تقتات عليه لسنين !
عاد إلى وعيه .. أزال دموعه المنهمرة بعنفٍ .. ضرب على قلبه الذي يتراقص بجنون .. نهض يجر نفسه حتى دورة المياه .. وضع رأسه أسفل الماء البارد .. دقائق طويلة يتذكر كم يوماً باتت في أحضانه .. كم مرةً تعانقت أصابعهما .. كم حلماً بالزواج والاطفال نسجا .. كم مرةً ركلته بعنفٍ عندما حاول تقبيلها .. كم مرةً مرضت وعالجتها يداه .. كم مرةً نال الضعف والحزن منه فلجأ لصدرها واضعاً رأسه عليه مطلقاً العنان لشهقات بكاءه .. كم مرةً بلسمت كلماتها جراحه ..
كم أحبها ويحبها وسيظل .. هذه المخلوقة التي سيطرت عليه وعلى فؤاده .. أحبها بحيث لا يمكن لبشري أن يصل لحبه وجموحه بها .. ولكن اللعنة ! كيف خسرها بيده .. كيف فضل المال والانتقام عليها ؟ ياللفلسفة الغريبة .. ربما أحياناً يبلغ منا الألم والرغبة المُميتة بالانتقام لنقتل من نحب بايدينا لنحطمهم وندوس عليهم لأنهم سيضعفوننا ولن نستطيع إكمال الانتقام .. الانتقام الذي سيدمر ما صنعوه لأعوام في طرفة عين .. الانتقام الذي سيعذب حياتهم ويودي بحياتنا .. الذي ربما يرسمنا في أعينهم محتالين باسم الحب فيكرهوننا ويظنون بنا كل سيء .. الذي ربما يجرحهم بشدة فيصروا على تدميرنا كما دمرنا أحلامهم وحياتهم معنا .. ربما هذا ما حدث وسيحدث مع كيوهيون و دونغهي .. إنها بالفعل فلسفة اللامنطقية !
رفع رأسه ينظر في المرأة وقطرات الماء تتساقط من على وجهه .. ثوانٍ وصرخ يضرب المرآة بيديه لتتحطم ويخترق شظاها كف يده !
***
نسمات الهواء الباردة المتسللة من الشرفة داعبت جسدها .. اقشعر بدنها فاكفهرت ملامحها الناعسة .. وتلقائياً شدت الغطاء على جسدها لتستدفء به .. فتحت عينيها ببطء فالغطاء الخفيف لم يشعرها بالدفء .. كانت دموعها من ليلة الأمس مازالت مستقرة بجفونها .. مدت يدها المرتعدة وأحاطت جسدها بالغطاء بحرص .. لامست أصابعها بعض الجروح التي تزين جسدها آبية أن تغادره منذ أول ليلةٍ لهما .. أغمضت عينيها بضعف شديد وانهمرت دموعها الخانقة بصمت .. رفعت أصابعها تلامس شفتيها .. أو بالأصح الاصقة الطبية على شفتيها .. ثم أطلقت زفرة قوية .. ككل يوم راجعت أيام الفترة الفائتة يوماً بيوم .. ولعنت ذلك اليوم الذي حدد حياتها البائسة ..
التفت تنظر لذلك الجسد المستقر بجوارها بهدوء .. نائم بملائكية منافية تماماً لكمية العنف والوحشية التي كان بها ليلة أمس .. عضت على شفتها بقهر .. أغمضت عينيها لثوان ثم أعادت فتحهما .. مدت يدها بضعف ولامست وجهه وهى تهمس بحرقة : اقولك ايه ؟ اقول لنفسي انا ايه ؟ ( ابتسمت بسخرية على ما آلت إليه حالتها ) اللي يشوفك دلوقت وانت نايم زي الملاك ميشوفكش وانت صاحي بتبقى حيوان
فتح عينيه على حين غرة .. فشهقت بخوف وأبعدت يدها فوراً .. أمسك ذراعها بعنفٍ قائلاً : هقطعلك لسانك عشان تبطلي تشتمي بيه تاني
بكت بتألم من قبضته .. ابتسم بسخرية واعتدل في جلسته .. ثم جذبها لتستقر بين أحضانه واضعاً رأسها على صدره العاري .. وخفف قبضته على ذراعها .. تسللت يده الآخرى لتنساب بنعومة على عنقها .. أغمضت عينيها باشمئزاز .. ودفعته عنها ومازالت تبكي ..
نظر لها بعيون كالصقر .. فانكمشت على نفسها خوفاً من نظراته وما تخفيه بداخلها .. مد يده مجدداً ليمسك بها .. فدفعتها عنها : متلمسنيش
ابتسم بسخرية وهو ينظر لها .. ثم أمسك بمعصمها وجذبها نحوه محركاً يده على جسدها بطريقة مقززة : مش هتبطلي الكلمة الهبلة بتاعتك دي ؟ يعني حاولي على الاقل تغيريها , اصل انا يا حبيبتي اما اعوز المسك هلمسك عادي , بالظبط زي امبارح كدا , فجددي نفسك عشان حتى الروتين وحش

طفح بها الكيل منه ومن أحاديثة المجردة من الحياء مطلقاً .. ولكن أي حياء مع شخصٍ مثله تصنع حبها طمعاً فيها .. فهذا الذي توصلت إليه كونها لم تعرف بعد ما الذي يحدثُ حولها .. اختفى كيبوم من حياتها تماماً .. ووالدتها عاجزة عن فعل أي شيء حتى بعد استعانتها باللواء لم يُفلح في شيء .. طالما هي زوجته برغبتها وأيضاً حذره من إتلاف أي دليل معهم ويفيدهم في قضية كيم لتخليص مروة .. ما أفصح عنه اللواء لوالدتها أن عليها الصبر فقط .. وما صرح به كيبوم أن لا شأن له بالأمر .. ولكن هل حتى لو كان بالفعل طمعاً فيها سيكون معاها بتلك القسوة ؟ كم هى محتارة منه ومن أفعاله .. بل وحيرتها من قلبها أضعاف .. تصنعت القوة وصاحت بغضب : انا بكرهـ
داهمها بأن مد يده ونزع عن شفتها اللاصقة بقوة .. أدت إلى انتزاع جلد الجرح بالكامل وهو يصر على أسنانه فربما لن يتحمل سماع الكلمة! : قولتلك متطوليش لسانك
وضعت يدها على فمها وهى تتنفس بصعوبة وكأنها تحتضر .. الآلم كان أكثر من مجرد كلمة قاتل .. مددت جسدها على السرير وهى تركل الغطاء بقدمها ودموعها الساخنة حجبت عن عينيها الرؤية من شدة الآلم .. ولطخت يدها بالدماء .. نهض دونغهي من الفراش وهو يبعثر شعره بلا أدنى اكتراث لها .. دخل دورة المياه مخلفاً وراءه تلك المسكينة التي تبكي محاولة كتم صراخ الآلم .. تحمم وارتدى ملابسه .. وخرج ليجدها كما هي ..
ضيق عينيه بملل واقترب منها .. أمسك بشعرها بعنف وجعلها تستقيم في جلستها عوضاً عن تمديد جسدها .. نظر لها بحدةٍ قائلاً : كل العياط ده عشان حتت تعويرة ؟
وضعت يدها على فمها وهي ترتجف وحاولت أن تكتم دموعها .. بعثر شعره مجدداً وهو ينظر لها بضيق .. دموعها لا تتوقف عن التساقط ويدها ملوثة بالدماء .. أطلق زفرة عميقة ثم التقط قطعة قطن ولاصقة من أحد الأدراج بجوار السرير .. ثم جلس على حافته وجذبها إليه مجدداً .. كانت نظراتها لهُ بائسة وعيونها ذابلة .. ومتقرحة من البكاء المُستمر .. خفق قلبه بخفوت .. تجاهل عن قصدٍ تلك الخفقة ..
أزال يدها من فوق شفتها .. وراح يزيل الدماء من عليها بقطعة القطن .. وعندما انتهى اقترب للغاية وهو ينظر لشفتيها ليثبت اللاصقة .. ربما كان السبب الاول في تراقص قلبه بتلك الطريقة المُريبة .. وخفقاته الغريبة القوية حد الجنون كان صوت خفقات قلب مروة التي وصلت لاذنه .. عيناه كانت على وسعهما من الصدمة وهو متجمد بتلك الطريقة يستمع لنبضها الشديد .. وأصابعهُ الملامسة لشفتها تستشعر ارتعاشتهما والحرارة التي أضرمت في جسدها فجأة ..
ربما لم يصدق ما يشعر به إلا عندما رفع نظره لعينيها ليشاهد بريق حبٍ يتوهج .. أسئلةٌ صدحت بداخله بقوة .. أمازالت تُحبني بعد كل هذا ؟! بعد كل ما حدث بيننا؟ أمازالت كالعاشقة التي تذوب حباً ويُجن قلبها عندما يلامسها حبيبها بعفوية ؟! أيُ حبٍ هذا الذي تحملينهُ ليّ في قلبكِ ؟ أيُ شغفٍ وجنونٍ هذا ؟ ولماذا أنا سعيدٌ هذا الحد بحبكِ الآن ؟
 لماذا استشيط غضباً عندما توشكين أن تقولي أنكِ تكرهينني وأمنعكِ عن التلفظ بها بالقوة ؟ لمَ أعتبرها إهانة ؟ لمَ ارفض سماعها ؟ أهو حبُ امتلاك لا أكثر؟ أم أن شعوري تجاهكِ بالحب ليس هواجس؟ ألم أعالج قلبي من حبكِ بما أفعلهُ بك؟ ألم يصدق قلبي أنني اقوم بإيذائك لأنني لا أحمل لكِ أي مشاعر حتى لو كانت شفقة ورحمة ؟ ولمَ أنا سعيدٌ الآن كل هذه السعادة وأنا أشعر بحبكِ ليّ؟
 ووسط هذا كله لم يجد نفسه إلا جاذباً لها لتستقر باحضانه !! أغمض عينيه وهو يشعر بانفجار دقات قلبه .. أصابعهُ المدفونة بين خصلات شعرها .. تحررت منها ببطء وانزلقت حيثُ ظهرها .. وشرعت تربتُ عليه بضعفٍ .. ودمعة واحدة فقط انزلقت من عينه .. ربما وقتها لم تصدق مروة ما شعرت به من دفء أحضانه وارتعاشة جسده هو الآخر .. وكادت تفقدُ حياتها من شدة نبض قلبها البادي وكأنهُ على وشك الانفجار .. يربتُ على ظهرها ! يُمسد شعرها ! يُتمتم بخفوتٍ وصل لآذنها ليصعقها ويجعل عينيها تغادران مقلتيها : بتوجعك لسه ؟
 لولا أنها تشعرُ به لكانت ظنت أنها فارقت الحياة لنعيمٍ بين أحضانه .. فقدت الشعور بجسدها وبكل ما حولها .. ودفنت رأسها في صدره بقوة وتمسكت بملابسه وهي تبكي حبها .. وتبكي شعورها الذي يُرعبها التفكير في أنها تتخيله .. أخفض رأسه يستنشق عبق شعرها الذي أشعره بالثمالة فجأة .. ومع الثانية التي طبع قبلتهُ فيها على شعرها كانت قد همست بصوتٍ ثمل هي الآخرى وصل خافتاً جداً لآذنه : بـ..ـحبك  !
أطبق جفونهُ بقوةٍ وهو يستمع لصدى الكلمة بداخله .. يسمعها ويشعرُ بها .. لكن صوتٌ ضعيف خرج من أعماقه يرفُضها .. أكان صوت الوحش بداخله الذي يرفض أن يتركهُ يعيش كبشرٍ ؟ أم صوت ضميره الذي يريد تعذيبها حتى تكرههُ فهو لا يستحقُ حبها ؟ مهما كانت حقيقة الصوت .. لا يهم بقدر ما يُهم أنهُ أفاقه من ثمالته بها .. أرجع لنفسه دونغهي الوحش الكاسر الذي لا يفهم لغةً غير العُنف والكراهية .. دفعها عنه بقوةٍ ليصطدم جسدها بالسرير .. نظرت له بدهشةٍ لترى في عينيه شيئاً آخر مختلف عما كانت عليه منذُ ثوان فقط ! أمسك شعرها بعنفٍ وأنهضها من فوق السرير .. ربما من الألم الفظيع كان المفترض أن تصرخ .. لكنها لم تحرك شفة ودموعها تتساقط بحسرةٍ على اللحظات التي ظنت فيها أن حياتها ستتغير !
دفعها نحو المطبخ قائلاً بحدة : اعمليلي فطار ( شرعت تُنفذ طلبهُ بصمتٍ تام .. وجلس هو على الطاولة يُنظم أنفاسه .. ولكن كلما صدحت بداخله كلمتها تتبعثر أنفاسه مجدداً .. ليجد نفسه ناهضاً وولج حيثُ هي .. أمسك بيدها التي تُقطع بها الخضار على حين غفلة لتخترق السكين إصبعها .. أغمضت عينيها تتألم .. فضغط على معصمها لتنظر له وصاح بها ) انتي هنا زيك زي اي كرسي في البيت ملوش اي لازمة , كل صفتك في حياتي انك واحدة اسمها مراتي جسمها حلو وعاجبني ف مخليها معايا , بس في مليون واحدة احلى منك تتمني اشارة مني , ف اوعى تسمحي لنفسك انك تفكري انك اكتر من كرسي بحتاجه لما اكون تعبان عشان ارتاح عليه
توقفت دموعها عن التساقط ولكن قلبها بكى ألماً قاتلاً يفتكُ بها .. اعتصرهُ الألم حتى أدماه ومزقهُ ببراثنه .. كان ينظر لها عندما أخفضت رأسها في انتظار رد فعلها .. فإذا بها ترفع رأسها وتنظر لهُ بعينينٍ باهتتين قائلة : مش معتبره نفسي اكتر من كدا
ضغط على قبضة يده وهو ينظر لها بعيون كالصقر .. انتظر رداً غير هذا الذي ما أحب سماعه أبداً .. ترك معصمها ودفع جسدها لتسقط ارضاً بشهقة ألم عندما اصطدمت رأسها بطاولة المطبخ .. نظر لها بلا اكتراث ظاهري ومِن ثَم غادر صافعاً الباب وراءهُ بقوةٍ هزت جدران المنزل بأكمله !
***
وضعت الخادمة الحقيية في غرفةٍ كبيرة .. ذات شكلٍ كلاسيكي رائع .. تطفو عليها اللمسات الانثوية .. مررت الفتاةُ نظرها من الأثاث الفخم إلى الجدران التي يغلبُ اللون الزهري على جدرانها .. حتى توقف نظرها بل وتجمد على إطارٍ به صورةُ امرأة شابة تكاد تكون نسخةً منها .. تقدمت بخطواتها البطيئة .. رفعت أصابعها المرتعدة ولامست الوجه في الصورة .. انزلقت دموعها والتفت تنظر للرجل الواقف خلفها ...
- ماما صح ؟
- الله يرحمها , انتي شبها اوي , حتى صوتك زي نبرة صوتها
أعادت نظرها للصورة وانزلقت دموعها وهى تتحسسها : بعدتيني عنك ليه يا امي ؟ كان نفسي احضنك اوي , كان نفسي اعيش معاكي يا امي , كنت هموت واشوفك وانام في حضنك , لما عرفت اني هرجع اخيرا كنت اسعد واحدة في الدنيا , حسيت اني عصفورة طايرة , بس جناحي اتكسر يا ماما لما عرفت انك موتي ومستنتيش تشوفيني بعد كل السنين دي
تعالت شهقات بكاءها ودموعها تتساقط بغزارة اشتياقاً .. زفر كيم أنفاسه المُتعبة .. وتقدم نحوها ثم جذبها لتسكن في أحضانه وآخذ يُمسد شعرها وهو يُقبله ويهمس : بس يا نورة , كفايا يا حبيبتي متقطعيش قلبي , بابا معاكي يا حبيبتي مش مكفيكي ولا ايه ؟
تمسكت بملابسه : وحشتوني اوي يا بابا
ضغطت مريم الواقفة على بعدٍ ليس بكبير من الغرفة على يدها .. وتمتمت : مش هخليك تتهنا بيها
- اعقلي يا مريم  ( همس هنري الذي كان ينظر لها وهي شاردة لا تشعر به )
نظرت لهُ بحدة ثم تجاهلته ودلفت للغرفة وهي تتصنع الابتسامة : انا قولت للخدامين يجهزوا الاكل , ايه رأيك يا ست نورة تبطلي عياط بقا وتغيري هدومك وترتاحي شوية عبال ما الاكل يجهز ؟
أومأت نورة بابتسامة صغيرة وابتعدت عن أحضان والدها تُزيل دموعها : مع اني مش جعانة بس حاضر يا موكا
ضحكت مريم قائلة : على فكرة وحشتني الكلمة دي منك
ابتسم كيم وجذب الفتاتان لأحضانه قائلاً بسعادة غامرة : ياااه اخيرا مريم ضحكت , ونورة رجعتلي ( مرر نظره بينهما .. إحداهما سعيدة والآخرى تتصنع ولكن بمهارة لا تُكشف ) انتوا الاتنين نور عينيا , نفسي اشوفكم فرحانين على طول
أومأت الفتاتان وتبادل ثلاثتهم بعض الاحاديث القصيرة .. ثم تركهم كيم وغادر الغرفة .. لتخبرهُ الخادمة أن كيوهيون ينتظرهُ في غرفة المكتب ...
- تحليل الـ DNA  الي عملته بنفسي يا باشا اثبت انها بنتك فعلا
- قولتلك يا كيوهيون ملوش لازمة , انا متأكدة انها بنتي , اصلا مريم متعرفش اي حاجة
- الحذر واجب برضو يا باشا
- قولي بس الشغل ماشي ازاي ؟
- معاد الحفلة اللي بنعملها كل سنة قربت اوي
- الاوضاع ايه ؟
- الدنيا ماشية زي الفل , الظابط في غيبوبة من شهرين وشكله مكمل , في دكاتره بتقول انهم هيسبوه اسبوع كمان وهيشيلوا بعدها الاجهزة عشان يموت ويرتاح بدل ما هو كدا
لمعت عينا كيم وانتفض قائلاً : لو مات كده كل حاجة هتبقى تمام ؟
- تمام التمام يا باشا
- طب افرض فاق هنعملوا ايه في حكاية الحفلة ؟ انت عارف انها مينفعش تتلغي لو اتلغت هنخسر مليارات
مرر أصابعهُ على ذقنه وهو منغمثٌ في التفكير .. وكيم ينظر لهُ منتظراً أفكاره .. فكالعادة لا يوجد مأزق لا حل لهُ لدى كيوهيون .. ظل هكذا عشرُ دقائق حتى كاد كيم يفقد الأمل .. إلا أن عينا كيوهيون لمعتا وارتسمت الابتسامة على شفتيه .. نظر لكيم بهدوء قائلاً : معاد الحفلة او الاصح التجمع السنوي لتجار الاعضاء عشان يحططوا خطط السنة كلها  قبل اليوم اللي الهانم الله يرحمها ماتت فيه , ويبقى كدا عدى سنة على موتها
- قصدك ايه مش فاهم ؟
اكمل بخبثٍ قائلاً : نورة بنتك هتعرف ان ده يوم وفاة والدتها , فتقرر تعملها سنوية يحضرها كل القرايب ورجال الاعمال , وفي وسطهم طبعا رجالتنا , وبما ان نورة هانم هي اللي هتعمل السنوية وتعزم الناس , ويلبسوا اسود ويسمعوا قرآن ويشربوا قهوة على روح الميتة محدش هيشك ابدا ان كل التخطيط والتجمع بتاع التجار في اليوم ده , كل ما هناك ان نورة هانم تعرف ان ده السنوية وانا متأكد انها اللي هتعرض عليك تعمل سنوية
صاح كيم بسعادة وهو يتخيل كم المليارت التي ستعود عليه من هذا التجمع : تسلم دماغك السم دي يا كيو , انا مش عارف من غيرك كنت هعمل ايه
ابتسم كيوهيون بنشوة فحتى هو نفسه أحياناً يتعجب من قدرته على إيجاد حل قاطع لأي مشكلة مهما كان حجمها .. ذكاء شيطاني خارق للطبيعة .. وفي الأعلى حيثُ الفتاتان الجالستان يتبادلن أطراف الحديث .. الذي أخذ منحنى خطير .. قالت مريم بحزم : من سنين يا نورة , من اول ما خالك عرفك اني بنت عمك واني حلقة الوصل الوحيدة بينك وبين مامتك الله يرحمها وانتي بتسأليني مامتك سفرتك او الاصح نفتك ليه ؟ وانا كنت دايما معنديش رد على السؤال , بس دلوقت انا عندي الرد دة تحبي تسمعيه ؟
أخفضت نورة رأسها وهي تعبثُ في أصابعها .. وقلبها راح يخفقُ بقوة غريبة .. أنفاسها باتت لاهثةً وكأنها كانت تركض لأميال .. كادت عينا مريم تلتهمانها وهي تنتظر إجابتها التي جاءت أخيراً ولكن صادمة للغاية .. رفعت رأسها وهي تحاول التبسم : مريم انا سيدة اعمال , عندي شركات برة , يعني نوعا ما عندي خبرة في الحياة , وربنا انعم عليا بالذكاء , انا عارفة ان بابا بيعمل حاجة غلط وماما خافت عليا فبعدتني عنه , اي راجل اعمال في الدنيا بيعمل حاجات غلط , دي الحاجة اللي طلعت بيها بعد تفكير سنين كان بيقتلني , بس ايه هو بقا نوع الغلط ده ( أدمعت عينيها وأمسكت يد مريم وقبلتها .. شغر فاهُ مريم وهي ترمقها بصدمةٍ .. فأكملت نورة متوسلةً ) خالو قالي ان اي حد بيحبك خبى عليكي سر , اعرفي انه سر بيوجع اوي , لا ممكن يقتل كمان , وانك متعرفيهوش دة احسن ليكي بكتير , فعشان كدة يا مريم مهما كان الاي تعرفيه انا مش عايزة اعرفه ( ابتلعت مريم لعابها وهي تومئ لها بلا ارادةٍ )
***
كان جالساً خلف مكتبه عاقداً ذراعيه إلى صدره .. وقد أرخى جسده تماماً على الكرسي الجلدي الفاخر .. رفع ساقيه إلى المنضدة بجواره .. كانت ربطةُ عنقه متحررة وأكمام قميصه مُشمرة .. بعض خصلات شعره مبعثرة بنشازٍ عن باقي الشعر المُتناغم بتصفيفةٍ تجعلُ منه فاتناً على الدوام .. كانت شفتاهُ تعانقان سيجارة يزفرُ دخانها بغلٍ وقسوة .. ربما كانت السيجارة الرابعة حتى الآن وهو الذي لم يحب السجائر يوماً .. فهوسه بفتنته جعلتهُ حريصاً على بياض أسنانه من السيجار ..
 كان مُحملقاً في الفراغ وصدى كلمتها يصدح بداخله كصوتِ أمواجٍ تتلاطم .. ليست المرةُ الأولى التي يشعُر تجاهها بهذه المشاعر .. ولكنها المرة الأقوى بينهما .. فلطالما كان يقوم ببتر شعوره قبل أن ينمو وفي لحظتها .. ضرب المكتب بإحدى ساقيه واعتدل بسرعةٍ .. أزاح بيده كل ما عليه في نوبة غضبٍ عارم .. نهض من فوق كرسيه وهو يلهث .. توقف بجوار الشرفة المُطلة على جموعٍ من الناس تلاحمت أجسادها وسط الزحام كلٌ يسير نحو وجهةٍ معينة .. كانت نظراتهُ لهم كارهة .. أو معاتبة ؟! لم يعرف كيف تساقطت دموعه وهو يناجيهم ..
 أن لماذا فعلتم بيَّ هذا ؟ لماذا عذبتم طفولتي بتلك الطريقة لتخلقوا مني وحشاً يدمر حتى أقرب الناس إلى قلبه لأنه سيعيده لكونه بشر ويُثنيه عن أمر انتقامه منكم؟ في الماضي كانت عبير من تألمت .. والآن مروة تتألم .. عبير آتت تستحلف ليّ بأنها ستُدمرني .. ومروة أفضت ما بجُعبتها و أفصحت ليّ عن حبها .. وفي النهاية أنا أعذبُ الاثنتين ومعهم استنزف روحي .. ضرب رأسه بالجدار عدة مراتٍ بقسوة .. وانهمرت دموعه خانقة للغاية تُلهب روحه وتحرقُ وجنتاه .. دلف آحد العساكر بعد طرق الباب مرتين ..
- دكتور كيوهيون وصل يا باشا ( أزال دموعه سريعاً بعنف وأومأ له أن أدخله .. فأردف ) ادخل يا دكتور
- ايه يا ابني ؟ اتصلت بيا وجايبني على ملا وشي , مالك في ايه ؟
نظر لهُ وهو يصر على أسنانه .. ودموعه انفجرت من عينيه مجدداً وصرخ به حتى أوشك أن يصُم أذنه : احنا ليه بنيجي على اكتر ناس بنحبهم ؟ ليه بندوس عليهم ونوجعهم ليييييه ؟
رمش كيوهيون عدة مراتٍ محاولاً استيعاب كلمات دونغهي .. رمقه من أعلاه حتى قدمه .. حالتهُ يُرثى لها .. استجمع فطنته واقترب بخطواتٍ واثقةٍ قائلاً : ممكن تهدى شوية , انت بتنخ بسرعة اوي يا دونغهي , اللي يشوفك وانت حيـ
صرخ به دونغهي من جديد : وانا حيوان ( صك أسنانه وأخفض نبرة صوته لتبدو أكثر رعباً ورجفة ) اللي يشوفني وانا حيوان بقتل الناس ميشوفنيش دلوقت وانا بعيط زي العيل عشان خاطر ست , ( صرخ من جديد ) انت اللي عملت فيا كدا , انا كنت ببعد نفسي عنها , انت اللي جبتها لحد حضني , خلتها بتاعتي وملكي , كلامك اللي ذي التعويذة بيخليني انسان آلي بتحرك بتعليماتك , وخلتني حيوان بيدوس عليها , بس بيفعص قلبه معاها وهو بيمثل على نفسه انه فعلا حيوان , انه سكينة في ايدك شفرتها ناااار بتقتل وتقطع انت بيها , بس لما بيوجعها ويذلها بمرضها وتيجي تقوله بكرهك قلبه بيصرخ انه لاااء الا الكلمة دي , واول ما اخدها ف حضنه وطبطب عليها وساب قلبه لثواني يتحكم فيه , قالتله بعد كل ده بحبك , ف الوش اللي كان لابسه اتكسر ميت حتة وقلبه فاق على سكينة بتدبحه  ,وعشان لأ مينفعش داس عليها تاني
كان كيوهيون يُنصت له بملامح مشدوهة وعينان جاحظتان إثر حديث دونغهي الذي ضغط وبقوةٍ على جراحه هو الآخر .. لقد صدق من قال أن نيران الانتقام لا تحرقُ إلا صاحبها .. ورغم شعوره بهذا إلا أنه مازال يُكابر .. بلل شفتيه الجافتين ثم أردف : احنا توهنا ف متاهة ومش هنقدر نرجع , يا نكمل مها كان الطريق صح او غلط , يا اما هنفضل ندور ازاي نرجع لحد ما عمرنا يخلص وفي الاخر نكتشف ان نقطة النهاية هي كانت الرجوع
أمسك دونغهي بملابسه بقوة وهو يهُز جسده : كفايا بقا كلامك ده , فوق انت كمان , احنا ضايعين ضايعين , وانا وانت ملناش قيمة عندهم , ولو لمصلحتهم هيسلمونا ونشيل احنا الليلة , انا تعبت ومش قادر اكمل , انا هاخدها ونهرب على اي بلد بره , وهاخدها في حضني واتحايل لاخر يوم ف عمري تسامحني ولو هفضل تحت رجلها مش هقول لأ
صرخ به كيوهيون ودفع جسده بقوة : انت اتجننت يا دونغهي ؟ بقا انا مجوزهالك عشان تلوي بيها دراعهم ولا تقعد تحبلي فيها؟ انت عايزنا بعد ما وصلنا هنا نوقف ؟
- انت عايز ايه انا مش فاهم ؟ اللي بينتقم ده بينتقم من حد معين , ايه عايز تقتل الناس كلها عشان تبقا كده انتقمت ؟
- انا عايز احس اني باخد حقي وحقك وحق عبير وحق كل حد حياته زينا من مجتمع قذر
- لو المجتمع قذر احنا بقينا اقذر منه
- اسمع انا معنديش صبر اتناقش معاك , السنيورة بتاعتك ديتها تشوف الفديو اللي حضرتك بتقطع فيه الغالية صديقة عمرها الف رحمة ونور عليها , وابقا سلملي عالحب يا روميو
توجه نحو الباب قام بفتحه ليصدم بعبير واقفة تستأذن العسكري للحصول على إذن الدخول .. بمجرد أن رأته أمامها اهتزت حتى أصغر خلايا قلبها .. خفق قلبها بشدة .. أغمضت عينيها لتسقط دموعها بحسرة وجسدها ارتعد .. وبداخلها قلبٌ يتضرع لتنجح محاولتها الأخيرة .. بدون سابق إنذار شعر بيدها تُعانق يده ..
 اتسعت حدقة عينيه ونفرت عروقه كمصارع يحمل الأثقال لتنمية عضلاته .. انسحبت الدماء من شتى جسده وتجمعت عند يده نقطة التلامُس .. اعتصرت قلبهُ يدٌ خفية .. ليُسجى كالوغى وكأن لم يكن في جسده روحٌ من قبل .. من الواضح أن روميو ليس دونغهي فقط .. إلا أن كيوهيون بارع في تمزيق قلبه والسير فوق جروحه ليُشفي ما يعتملُ صدره .. دلفت به لمكتب دونغهي وهو مُنصاعٌ بصمت .. أغلقت الباب وتركت يده كي تُغادر الروح جسدها وتستقر بجوار قلب كيوهيون الذي استنزف حبها ..
ولتتدفق الدماء إلى سائر جسده من جديد .. رمقها دونغهي الماثل أمامها بعيونه الباهتة بتعجبٍ ولهفة في ذات الوقت .. استنشقت نفساً عميقاً مِن ثَم زفرته وقالت : عارفين انا شايفة قدامي ايه دلوقت ؟ اتنين احقر من بعض , واحد عقله عايز الوأد عشان البشرية ترتاح , والتاني بدعي ربنا ياخد صحته عشان يبطل يفتري بيها عالناس , ريحتكم موت , وشوشكم شياطين , ايديكم بتنقط دم , ( انهمرت دموعها بغزارة ) قلبكم اقسى من الحجر على اقرب الناس ليه , انتو الاتنين عار , نسونجي وقتال قتلة بس ف بدلة ظابط , خَمُرجي وشيطان وسفاح بس معاه كارنية نقابة الاطباء , ياااه برافو برافو , هو ده حلمي , اهو بيتحقق قدامي وبشوفه وانا فرحانة , فرحانة اوي ( تقطعت أنفاسها اللاهثة من شدة اختناقها بالدموع ) فرحانة لدرجة اني نفسي ارجع بالزمن لليوم اللي شفتك فيه قاعد تحت المطر , بس مش عشان اخدك معايا , لأ , عشان اسيبك ولا كأني شوفتك وامشي
انهمرت دموع دونغهي من جديد .. بينما اهتز جسد كيوهيون ولكنه تجلد قائلاً : المحاضرة دي كلها ليه ؟
ابتسمت بسخرية وسكين الحسرة شرعت تُمزق أوتار قلبها لتقول : سلم نفسك واعترف
قهقة كيوهيون بسخرية ثم ألقى كلماته وغادر على الفور .. " خليكي ف حالك , دور البطولة مش حلو عالبنات " .. رمقته بحدة وهو يغادر ولو كانت العيون تحرق لاخترقته نظراتُها .. وقنبلةُ الكره بداخلها وأخيراً اقترب عود ثقاب من فتيلها .. من الواضح أن الحاجز الذي عليها تحطيمهُ أوشك على الانفجار !! نظرت لدونغهي باشمئزاز وقبل أن تلتف لتغادر .. ألقى هو بنفسه بين أحضانها متشبثاً بها .. غمر رأسه عند عُنقها .. وراح يضربُ على ظهرها وشهقاتهُ تتوالى بألم وأنينهُ لا يتوقف .. يبدو أن كلمات عبير كانت القشة التي قسمت ظهر البعير ...
***
استندت إلى المنضدة وهي تتحسس الجرح في رأسها .. تضرجت يدها بالدماء فابتسمت بحسرة والدموع لم تتوقف عن التساقط .. نهضت أخيراً بعد عناءٍ مع قدميها لتحملانها .. وسارت تترنح حتى هبطت على حافة السرير .. تناولت قطعة قطن كبيرة من الكيس الذي استعمله دونغهي .. وضعتها على رأسها وراحت تكتم الدماء لتتوقف عن السيلان .. تنقلت في أرجاء المنزل وهي تلتهم صوره المُعلقة على حوائط المنزل بعينيها .. زفرت أنفاسها بقوةٍ ..
 وقادتها قدماها أو ربما القدر إلى غرفة مكتبه ومن يعلم ؟! جلست على الكرسي وأخذت تعبثُ بأوراقه وهي تستشعر لمسات يده على الأوراق .. نظرت لـ اللاب توب خاصته الساكن بهدوء فوق المكتب .. أمسكت به وهي تنظر لهُ في حسرة .. تتذكر جهازها القديم في منزلها .. الذي كانت تقضي عليه الوقت ليلاً في الدردشة التابعة للفيس بوك الخاص بها .. حديثها الذي لا ينقطع مع نور حتى تنام احداهما من الآخرى .. عادت لتشق الابتسامة ثغرها وهي تُتمتم : الله يرحمك
نور .. ليتوك .. والدتها .. اللواء وزوجته .. حتى كيبوم .. اشتاقت للجميع .. مَن لم تعرف عنهم شيئاً مُذ وطأت قدميها هذا المكان .. الأم في حسرةٍ ولازالت ساكنة بجوار ليتوك .. فاقدة الحول والطول بعد تنبيهات اللواء بعدم محاولة الاتصال مع مروة حتى يرى هو ما الذي بمقدوره فعله .. زفرت أنفاسها بشدة .. وقامت بتشغيله .. لتجد كلمة (Enter the password ) تتراقصُ على شاشته ..
 لم تكُن مهتمة كثيراً بفتحه ولكن على آية حال أدخلت كلمة عشوائية وهي تسخر من نفسها على اختيار تلك الكلمة ((Marwa بمجرد ضغطها على زر الإدخال .. تحول زر الفأرة إلى دائرة التحميل وتراقصت كلمة ( (Welcom أمام عينيها وفُتح الجهاز .. شغرّ فاهُ مروة من الصدمة .. وكادت عيناها أن تقفزا من مكانهما .. لكن ما هذا الكائن الذي لم أعد أفهمهُ أبداً ؟ هكذا تساءلت .. بدأت تُحرك مؤشر الفأرة .. وأول ما زارت كانت الصور .. وجدت أشكالاً وألوناً من الصور ..
ولا تخلو تلك الصور من الجنس الناعم .. فها هو يقف على يختٍ فاخر وسط مياه البحر الأحمر اللامعة .. ويُحيط خصر فتاة أجنبية فاتنة بعيون المُحيط ترتدي ملابس الشاطىء .. الآخرى في نادي ليلي وسط الفتيات على حلبة الرقص .. في الحديقة بين أحضان فتاة خمرية البشرة .. إلخ .. ابتسمت متمتةً : للدرجة دي حياتك القذرة عزيزة عليك ؟
اغلقت الصور وهي تتأفأف .. فتحت مستنداً آخراً كُتب اسماً له ( شغل ) .. فتحته وكان عبارة عن العديد من الصور لاوراق قضايا كان يعملُ عليها .. من الواضح انه ظابطُ شرطة مجتهد .. هذا ما ظنته .. مستندٌ كُتب عليه ( روقان ) .. فتحته وأغلقتهُ في غضون ثوانٍ .. قراءة اسم آحد الأفلام كان سيجعلها تتقيأ .. تمتمت وهي غاضبة : ده انت مش ظابط شاطر , ده انت عايز بوليس الاداب
أكملت تصفحها لتجد مستنداً كُتب عليه ( أمن دولة ) .. فتحته لتجد أعداداً كبيرة من الفديوهات .. فتحت واحد تلو الآخر .. وقلبها يخفق بجنون من هول المناظر ! إنها عنابرُ أسفل الأرض .. مظلمة ومرعبة أصوات صراخ .. شتى أنواع التعذيب .. يظهر ضُباط بهيئة بشر ولكن بقلوب حيوانات مفترسة .. وهم يعذبون الناس .. أدمعت عينيها حتى تقرحت وجسدها يرتعد ويهتز .. مشاهد العُنف مُريعة .. أغلقت المستند على الفور ومازالت ترتعد .. وضعت يدها على صدرها لتنظم أنفاسها .. ابتلعت لعابها لتُبلل حلقها الجاف ..
وأغمضت عينيها بقوة ثم فتحتهما مجدداً .. مدت يدها المرتعشة لإغلاق هذا الجهاز أو الجحيم إن صح التعبير .. ولكن اسمُ مستند لفت انتباهها ( تشريح ) .. ازدردت لعابها وهي تحارب فضولها .. ولكن في النهاية ضغطت أناملها على المستند ليظهر أمامها كم هائل من الفديوهات .. فتحت أحدهم عشوائياً .. لتظهر مشرحة مشفى كيم .. وكيوهيون والسفاحان معه .. وهم يستئصلون قلب عجوز .. والحديث الدائر بينهم يقشعر له البدن .. يضحكون ويتحدثون عن كمية الأعضاء المطلوبة للبيع .. تتابعت الفديوهات واحدٌ تلو الآخر ..
وهناك فديو لدونغهي وهو يلعق دم فتاة بعد أن قام بذبحها .. وتلاه الفديو الأخطر على الاطلاق .. اغتصاب .. تشريح .. ذبح .. هكذا كانت مراسمُ قتل نور على يديه ! علقت غصة بحنجرتها وعينيها كادتا تقفزان من محجريهما .. وضعت كفيها على فمها تكتم صرحاتها .. ولكنها لم تستطع فتعالت صيحاتها .. ارتفعت حرارة جسدها إلى مرحلة خطرة يُمكن أن تودي بالحياة ..
جهازٌ تنفسها كاد يتوقف عن العمل .. ورئتيها على وشك الانفجار .. قفصها الصدري كاد يتهشم .. وجهازٌ عصبي يُنذر الدماغ ويبعثُ لها برسائل عصبية لتستعيد نشاطها قبل فوات الآون .. فقدت أعصابها القدرة على التماسك .. فراح جسدها يرتعد بسرعةٍ مُخيفة كمن تعرض لصاعقة كهربائية بحجم خزان من المياه دون أن يفقد الحياة .. نفرت شرايينها وصبغ جسدها بالأزرق .. وتجلط الدم استعداداً لسكتة قلبية ناجمة عن انهيار عصبي حاد !!
فتحت عينيها مع نور الصباح لتجد نفسها قابعةً فوق السرير والمحاليل تحيطُ بها .. وعلى طرف السرير جلست عبير تُمسد شعرها .. ابتسمت عبير كما تفعلُ دائماً منذُ إسبوعين : صباح الخير
أومأت مروة وهي لا تشعر بما يدور حولها .. فقط تشعر بما يجلدها من الداخل .. ألم عصف بها حتى أودية الهلاك دون رحمةٍ أو شفقة .. مرّ اليوم طبيعياً للغاية .. تناولت فتات دسته عبير في حلقها بصعوبة  .. وتناولت دواءها لتغط في النوم مرة آخرى .. غطتها عبير جيداً وخرجت حيثُ جلس دونغهي في حالةٍ يُرثى لها .. ملابسهُ لم تتغير منذُ أربعة أيامٍ تقريباً وذقنه بارزة والسواد اتشحتهُ عيناه بفُجرٍ .. بضعفٍ قال : اكلت ؟
- كالعادة فتافيت بالعافية واخدت الدوا ونامت , يا رب تعرف تكمل نوم ومتصحاش تصوت على كابوس زي كل يوم
- والعمل يا عبير ؟ انا بموت وانا شايفها كدا !
- صدقني مش عارفة اقولك ايه , ادعيلها
أغمض عينيه وهو يراجع صراخها ذلك اليوم .. صراخها يدوي بداخله كالطلقات النارية .. حينها ركض هو وعبير بعد أن خرجا من المدرية وآخذها ليُعرفها على مروة لتقضي معهم اليوم نحو باب المنزل فتحه بإعجوبة وركضا نحو الصوت ليجدها منكمشة أرضاً تبدو كجثة تستعدُ لمفارقة الحياة .. ضرب بنظره ليجد جهازه على الأرض بجانبها وأصوات الصرخات النابعة من حنجرة ليتوك تتوالى .. حينها فقط أدرك أن نهايتهُ بالفعل قد حانت ..
سقط أرضاً يلفظُ أنفاسه بصعوبة .. بينما أن عبير ابتلعت صدمتها وهاتفت المشفى لتُرسل طبيباً وسيارة إسعاف بأسرع ما يُمكن .. وبينما حياتها على المحك في غرفة الطوارئ .. كان دونغهي خارجاً يحتضر بين أحضان عبير التي بكت بقهرٍ حال أخيها الذي نهشهُ الندم كالذئاب الضارية التي لا ترحم .. ليتهُ ينفعُ الندم .. كانت تجول بخاطرها وهي تُمسد شعره .. ولعله حينها رُدت إليه روحه عندما خرج الطبيب مبتسماً ...
- الحمد لله قدرنا نلحقها , كان عندها انهيار عصبي حاد كان ممكن يأدي لسكتة قلبية بس ربنا انجدها في اخر لحظة , واضح ان حظها حلو وربنا بيحبها لان الجنين متأثرش وبكامل صحته
التهمهُ دونغهي بنظراته وعيونه البارزة وخفقات قلبه التي على وشك أن تتلاشى .. بينما تحاملت عبير على نفسها وقالت بتلعثم : هي حامل ؟؟
عقد الطبيب حاجبيه بدهشة ثم أومأ : واضح انكم متعرفوش , المدام حامل في الشهر التاني , الحمد لله هي والجنين بخير , راحة تامة وتواظب على العلاج , وممنوع اي ضغط نفسي وسبب الانهيار ممنوع منعاً باتاً تشوفه , هتفضل في المستشفى لحد ما نطمن عليها , الف مبروك
استأذن مغادراً وانتشل فؤاد دونغهي معه .. أغمض عينيه راجياً ألا يفتحمها ثانيةً .. عادت البيت دون أن تحتك به مطلقاً ولم يحاول الظهور أمامها أبداً .. تكلفت عبير بأمر مراعاتها لحين شفاءها واستعادة قدرتها على تقبل رؤيته لينظرا ماذا هما بفاعلين في حياتهما الجديدة بعد أن كُشفت الحقيقةُ كاملة .. وهناك فردٌ ثالث على وشك القدوم لهذه الحياة يحمل جزءاً بداخله منه ومنها .. وتحملهُ هي في أحشائها معترفةً بأنهُ جزءٌ منه في داخلها .. تُرى ماذا تحملُ الأيامُ في طياتها ..
أما لهذا الجحيم من نهاية ؟!
 أفاق من شروده على جسده الذي التحم مع جسد عبير وهي تربتُ عليه بحنانٍ يُخدر شيئاً من ألمه !
***
الرؤية مشوشة وكأنما هي السماء في يومٍ شتوي مُلبد بالغيوم .. وبخار الماء يشوه الرؤية .. غرفةٍ كلاسيكية شبابية مليئة بالأصفاد والطلقات النارية كحبات الأرز .. المسدس يتوسط المنضدة التي تحمل فوقها أوراق لا حصر لها .. كالعادة كانت أصابعها تعبثُ بالأوراق وهي مُبتسمة ببلاهة .. حينما فاجأها بصيحة عالية : نوووور بتعملي ايه ؟
صرخت واصطدم جسدها بالحائط ويدها على صدرها تحاول التنفس بعد أن أفجعتها الصدمة .. عندما استوعبت ما حدث تساقطت دموعها وتعالى صوت البكاء : يا ليتوك والله ما عندك دم , اقسم بالله قلبي كان هيوقف
اقترب منها بابتسامة ملء شدقيه .. حرر أزرار قميصه ووضع يده على الحائط الذي تستند إليه : يقطعني , حقك على ليتوك يا قلب ليتوك ( ابتلعت لعابها بتوتر من هذا القرب .. ثم بهدوء حاولت أن تبتعد عنه .. وضع يده الأخرى ليحجز جسدها بينه وبين الحائط .. كانت ستدفعهُ عنها مستنجدة بوالدته إلا أنه خدرها عندما إغمض عينيه وأطبق بشفتيه على جبينها مقبلاً إياهُ بعمق .. ابتعد قيد أنملةٍ هامساً ) عندي مأمورية بكرة , ممكن اشبع منك ؟
لم ينتظر إجابتها بل دفن رأسهُ في شعرها المنسدل على عُنقها يستنشقهُ وخلاياه تنتعش وكأن الحياة تتجدد فيها .. رائحة شعرها لا يُمكن لهُ أن ينساها .. يستطيع تمييزها بمنتهى السهولة .. ولكن أنفه اشتمت رائحة غريبة .. اكفهرت معالمهُ .. مهلاً إنها رائحةُ دماء .. أبعد رأسه المغمور في عُنقها بل وابتعد جسده أيضاً .. ليُصعق وتجحظ عينيه عندما رأى الدماء تتساقط من عينيها الفارغتان من القرانية .. وجسدها عاري ومُمزق لا تظهر معالمة من الدماء .. عنقها المذبوح خرجت منه رئتيها .. سقط أرضاً وهو يزحف بعيداً عن تلك المسخة .. وبكل ما تملُك حنجرته من طاقةٍ صرخ !
كانت والدته الباكية واللواء بل وكيبوم والطبيب يراقبون جسده الذي يهتز وأطرافه التي ترتعش بسرعةٍ مُريبة .. كيس الأوكسجين الذي ينقبض وينبسط بسرعة هائلة .. وهم يتضرعون بالدعاء .. وعلى حين غرة انتفض جسده بقوة دفع هائلة للأمام وصدح صوت صراخه حتى كاد يخترق آذانهم .. عيناه كادتا تقفزان للخارج .. وعروق جسده بالكامل نافرة .. صبغ جلده باللون الأحمر نتيجة تدفق الدماء بشكل رهيب لجميع أنحاء جسده .. وأخيراً عاد لوعيه !
الدموع .. المباركات .. عبارات الحمد .. شهقات البكاء .. العناق الذي كادت تُهشم به والدته عظامه .. ونصائح الطبيب بأن يهدأ الجميع ويكفوا عن محادثته كون ثلاثتهم راح يحتضنه ويُحدثه ويسأله كيف حالك ؟ بماذا تشعر .. وهو صامتٌ لا يُجيب آحد فهو مازال تحت تأثير الغيبوبة ولم يستوعب بعد ما يدور حوله بالكامل .. مرّ يومان كاملان وليتوك في المشفى لم ينبُس بحرف .. مُمدد على السرير عيناه تحدقان في الفراغ أمامه دون القيام بأي شيء آخر .. وحسب ما قاله الطبيب يحتاج مهلة ليعي ما يحدث حوله .. بعد غيبوبة طويلة .. ولكن على الأقل كونه يفتح فمه لوالدته لتُدخل الطعام إليه وكذلك الممرضة لتُدخل الدواء جعل الجميع في حالة راحة وهدوء .. ولكن لم يعرف آحد أن هذا الهدوء ربما هدوء ما قبل العاصفة .. العاصفة التي ستقتلع الأخضر واليابس !
***
بشفاهٍ ترتعد وهي تضغط على الغطاء في كفها .. ودموعها تتساقط صكت أسنانها تقول : اطـ..ـلع برة مش قادرة اشوفك , مش قادرة استحمل احساسي انك معايا في مكان واحد , اطلع برة ,
أمسك يدها فسحبتها بشدة وهي ترتجف .. ابتعد قيد أنملةٍ وهو يبكي هو الآخر .. وتلعثم قائلاً : مروة ابوس ايدك اسمعيني
- اخرس , اخرس صوتك بيموتني
- اديني فرصة ابوس ايدك , فرصة واحدة بس , اقسملك بالله انا ندمان , خلاص مش عايز حاجة من الدنيا غيرك , انا بحبك يا مروة اقسم بالله بحبك
- وانا بكرهك , اقسملك بالله بكرهك فوق ما تتخيل , خلاص صدقني مفيش ذرة حب في قلبي ليك , مكتوب جواه اني بكرهك
- انا هخليكي ترجعي تحبيني تاني , اقسملك بالله اتغيرت وهعيش عشانك بس , نفتح صفحة جديدة ابوس ايدك انسي اللي فات ونفتح صفحة جديدة تانية
صرخت به وهي تنظر لهُ بعينين تنضحان بالكره ..  استمر جسدها يرتعد وهي تصرخ بهستيرية : صدقني مفيش ف قديمك حاجة تشفعلك عشان افتح معاك صفحة جديدة من حياتي , انت صفحة ومش بس طوتها ده انا حرقتها بجاز وسخ زيك , طلقنــي لو لسه عندك ذرة كرامة او انسانية , طلقني لو زي ما بتقول انك بتحبني
خرّ ساقطاً على حافة السرير وأنفاسه تحتضر .. أمسك يدها وشرع يقبلها بجنون : لأ يا مروة ابوس ايدك الا الطلاق متسبنيش , طب مش عشاني عشان ابننا
دفعت يده وبصقت في وجهه .. وصرخت به : ابننا ! انت فاكر اني هسيب حاجة قذرة من واحد وسخ زيك جوايا ؟
- حـ..ـرام عليكـ..ـي , انا عايز فرصة واحدة بس ارجع انسان
- انت هتفضل طول عمرك حيوان , وانا حيوانة اكتر منك عشان في يوم حبيتك وجرحت قلب بني آدم حبني بجد , دوست عليه عشان واحد زيك ,
نهض مترنحاً وغادر الغرفة كأنه يستعد لرحلة آبدية إلى الكفن ثم القبر .. كانت عبير تبكي خارجاً وبمجرد خروجه نهضت واقفة : هحاول انا معاها , هي بتحبك بس مجروحه , ارتاح انت وسبها عليا ( منحها ابتسامة باهتة وجلس على المقعد ينظر للاشيء )
***
وصلت الأم لباب الغرفة بملامحها المتعبة الاعتيادية .. كانت تحمل بين يديها زجاجة مياه .. وضعت يدها على مقبض الباب وفتحته ببطء .. ولجت للداخل لتنبعث منها شهقة مرتفعة .. وسقطت الزجاجة من يدها أرضاً ...
ركضت نحوه وتشبثت بذراعه وهى بالكاد تلتقط أنفاسها اللاهثة وأردفت بتلعثم : لـ ليتوك انت رايح فين يا بني ؟ انت لسه فايق غلط عليك الحركة الدكتور قال ترتاح
عيناه كانت ككهفٍ غائر خالية من أي تعبير .. وجهه بدى وكأن ملامحه قد زالت .. كل شيء فيه مُربك حد الرعب .. يبدو كشبحٍ يتحرك في جسد إنسان .. رفع يده الآخرى ببطء وأنزل يد والدته .. تركها خلفه وأكمل سيره للخارج دون التلفظ بحرف .. جلست الأم أرضاً تضرب على وجهها وهي تبكي حالته و  تصرخ بألم ..
بينما هو أخذته قدماه التي يسير عليها وسط طريق السيارات كالميت إلى مدرية الجيزة .. طرح سؤالاً واحداً وبعدها انطلق راكضاً بأقصى سرعة وكأنما قوة الأرض بأكملها بُثت فيه .. كان يركض بلا هوداة .. دموعه تتطاير من عينيه للخلف .. يرى الكون من حوله في ضيق خرم الإبرة .. في سواد السماء الخالية من النجوم ليلاً .. يشعر وكأنما يركض على فيض نهرٍ جاري من الدماء .. وكلما تلفت حوله يرى عُنقها المذبوح محفوراً على الحوائط .. كلما تقدم وغاص في تلك الظلمة كلما هاجمته صفعته الأخيرة لها .. كلما انتهت دموعه تمده الأحزان بدموع آخرى وهو يصرّ على أسنانه وقلبه يرتجف ..
 دماؤه تغلي وجسده يصرخ مطالباً بعناقٍ أخير .. كلما تذكر الظفر الذي فصلهما في مشهدٍ يعد الأقصى .. تُزهق روحه ملايين المرات .. عاصفة غضبٍ وألم وانتقام فرضت سيطرتها عليه بالكامل .. فوصل جموحه بها عنان السماء .. طريقٌ طويل عبئة بالكثير من المشاعر .. اليوم ستكون النهاية لتهنأ في قبرها .. توقفت قدميه أمام باب المنزل .. وهنا اختفى هذا العالم الذي انغمث فيه طوال الطريق .. وعاد كل شيء إلى طبيعته إلا هو ...
وجهه متيبس .. عيناه متقرحة ودامية اختفت معالمها بالكامل بسبب اللون الأحمر الذي سيطر حتى على عدسة العينين السوداء فصبغها بلون الدماء .. برزت عروق عنقه ووجهه مكفهر عابس متيبس .. أنفاسه زئير يصمُ الآذان .. ضغطه على قبضة يده أبرز عضلاته وعروق يديه المحمرة من شدة تدفق الدماء .. بدى كوحشٍ كاسر لا حد لجباروته .. دق الجرس بهدوء وبعد دقيقة واحدة فتح دونغهي الباب .. ليُصدم به أمامه لا يفصل بينهما سوى بضع إنشاتٍ .. شهق برعب لأول مرة من شكله .. وسرعان ما تراجع خطواتٍ للوراء .. دفع ليتوك الباب وتقدم نحوه يبتسم بذات الملامح : Surprise , Surprise
حاول دونغهي ابتلاع غصته التي استقرت بمنتصف حلقه ولكنه لم يستطع .. ملامحه كانت مشدوهة بالكامل وعيناه على وسعهما من الصدمة والخوف .. اختفت ابتسامة ليتوك وصرّ على أسنانه لتسري قشعريرة رهيبة في أنحاء جسد دونغهي .. وقبل أي ردود أفعال آخرى لكمه ليتوك لكمة قوية أطاحت بجسده ليسقط على المنضدة الزجاجية وتتهشم .. تفلتت منه صرخة ألم عندما اخترقت شظايا الزجاج ذراعه .. فتقدم ليتوك بسرعة وأمسك به من ملابسه ودونغهي يحاول التنفس .. أنهضه وبكل قوته ثنى قدمه وضربه في معدته احتقن وجه دونغهي وانبصقت الدماء من فمه .. وعلى هذا الصوت ركضت الفتاتان من الداخل إلى الخارج ..
 لم تتحمل مروة المزيد من مشاهد العنف .. فارتجفت وخرت ساقطة على الارض منكمشةً في نفسها تبكي بهستيرية وتضع يدها على أذنها برد فعلٍ غريب !! هبطت عبير بسرعة لمستواها واحتضنت جسدها الضئيل والضعيف بين ثنايا صدرها .. وهى تربت على شعرها لتهدأ من روعها .. بينما تنظر لهذا المشهد الدامي وأنفاسها تتلاشى من فظاعته .. لكمة بعد الآخرى ودونغهي لا يستطيع تحريك أنملةٍ فيه .. ركله ليتوك ليصطدم جسده بالحائط وهو يضع يده على معدته ويسعل بضعفٍ ووهن .. تقدم ليتوك وأخفض جسده قليلاً أمسك بشعره وجعله يرفع رأسه .. نظر له دونغهي بضعفٍ تام والدماء تنزف من جبينه ..
 ابتسم ليتوك مجدداً بسخرية وبكل قوته ركله في وجهه بقدمه .. اصطدمت رأس دونغهي بالحائط بقوة فأغمض عينيه يتأوه .. اجهشت عبير في البكاء وهى تحاول كتم صوتها فقط لأجل تلك المسكينة التي فقدت أعصابها فأصبحت ترتعد بسرعة غير طبيعية وأصابعها المتمسكة بملابس عبير انغرست في جسدها وهى دافنةٌ رأسها في صدرها .. وعبير تحيطها بقوة أكبر وكأنها تود أن تدخلها لجسدها ..
أعاد ليتوك إمساك ملابسه ورفع جسده لمستواه .. نظر له دونغهي من وراء الدماء التي غطت وجهه نظرات بائسة للغاية .. فتذكر ليتوك فوراً عيناه التي كانت يتقاذف منها الشر والحقارة .. وتذكر نظراته البائسة وهو يرجوه بأن يتركها ويفعل به ما يشاء .. انزلقت دموعه بحرقة وضغط على شفته السفلية بغضب العالم حتى أنها جرحت وتلوثت أسنانه بالدماء .. نظراته بعدها جعلت دونغهي ييقن بأنه ميت لا محالة ..
وجه دونغهي نظره بضعفٍ للفتاتان وهو يرمق مروة بحسرة وآسفٍ لحالها .. فصوب ليتوك نظره لهما هو الآخر .. لم يلحظ مروة التي لا يظهر منها شيء .. بل كانت عبير هى ما تنظر لهم مترقبة في خوف .. حتى الصراخ لإنقاذ دونغهي سيجعل مروة تنهار تماماً وربما تحدث لها سكتة قلبية كما قال الطبيب .. كانت نظرات دونغهي وكأنه يودعهما .. ولكن ليتوك أمسك بشعره وراح يركله في قدمه حتى خارت قواه وسقط أرضاً .. جره من شعره بعنف حتى أن الكثير من الخصلات تمزقت في يده .. رفع جسده بالكامل بيدٍ واحدة من شعره وأخذ يضرب رأسه في الحائط الزجاجي الكبير المستخدم في المنازل الحديثة للفصل بين الغرف المفتوحة على بعضها ..
ومن شدة وعنف الضربات تحطم الزجاج بالكامل .. وأصبح وجه دونغهي وكأنه تم تشريحه .. لم يجد أي مقاومة فغضب ليتوك ورغبته المميتة في الانتقام بثت فيه قوة هائلة .. لم يكتفي بهذا .. أمسك زجاجة من الشظايا المتناثرة أرضاً وقبل أن يحركها على عنق دونغهي .. تركت عبير مروة غصباً وركضت نحوه بكل شجاعتها وقوتها قفزت على ظهره وهى تركله في قدمه من الخلف بقدمها .. نعم تعلم أنه ليتوك .. نعم تعلم أن لديه كلُ الحق فيما يفعل وسيفعل .. ولكن لم تستطع السيطرة على مشاعرها .. اتسعت حدقة عين دونغهي وبصعوبة رهيبة تمتم ...
- عبير , ابـ .. ـعدي يا غبية !!
قفزت من فوقه ووقفت أمام ليتوك ودونغهي خلفها أرضاً يسعل فتنبصق الدماء من فمه .. آخذت وضعيه الدفاع وهى تنظر له بقوةٍ وتهديد .. ربما هذه كانت مرته الأولى التي أعمى فيها الغضب بصيرته لهذا الحد الذي جعل منه وحشاً كاسراً يصعب الوقوف في طريقة لمحاولة ردعه .. نظر لدونغهي الذي يتمسك بقدمها محاولاً النهوض كي يبعدها عن ليتوك .. فوراً أدرك بأنها شخصٌ غالٍ على قلبه ..
وهذا هو المطلوب ..
 ابتسم ابتسامة حسرة واسعة وكونت عينيه خط دموع ينسال على خديه وإذا به يجذب عبير من شعرها بعنف ويضمها إليه .. حاولت التحرر منه فصفعها بقوة .. جفت شفاه دونغهي وهو يرى نفس مشهد قتل نور ولكن الأدوار قد اختلفت ..
 فكما ذُكر سابقاً أنه في كل روايةٍ عدةُ مشاهد مع ثبوت الأبطال ولكن في روايتنا نحن إنما هو مشهدٌ واحد تعدد فيه الأبطال .. انقلبت الأمور فأصبح السجين هو الجلاد .. وبين الكذبة والصدق اندثرت الحقائق كما النجوم .. والأمور ذات العواقب الوخيمة ما عاد أسهل منها ليصنع .. وفي معركةٍ آبدية بين الخير والشر ضاع بنو آدم .. ووسط هذا الكرنفال الحافل تم تحطيم العديد من القلوب !!..
هنا فقط لعن دونغهي اليوم الذي تجرد فيه من إنسانيته وفعل هذا ليُرَد إليه .. ليتكِ ما عدتِ عبير .. حاول النهوض بصعوبة ليحررها من قبضة ليتوك .. فركله مجدداً بمنتهى العنف ليسقط أرضاً مرة آخرى .. ظلّ ممسكاً بها وهو يجرها خلفه باحثاً عن حبل .. وحالما وجده ضرب رأسها بالحائط بقوة لتسقط أرضاً متألمة .. جثى هو الآخر أمام دونغهي .. ثم أحكم ربط الحبل على قدمه .. ذات القدم التي ربطه منها يوم الحادثة وثبت الطرف الآخر في إحدى عمدان المنزل ..
أمسك عبير وأنهضها لتصبح في أحضانه تماماً كما حدث مع نور .. كان قد أحضر سكيناً وهو يبحث عن حبل .. فحرك شفرتها أمام وجه دونغهي الذي راح يصرخ وهو يحاول التملص من الحبل .. وأخذ يرجوه ويتوسل إليه بكل ما هو غالٍ ليتركها .. وكلما زاد في التوسل كلما اتسعت ابتسامة ليتوك ودموعه تنهمر بغزارة .. وفي مشهدٍ حبس الأنفاس وضع شفرة السكين على عنق عبير المقيدة في قبضته وصرخ بدونغهي في ألمٍ : اغتصبها ولا اقطعلك جسمها حتت ولا ادبحها ( ارتعد جسده ودموعه الساخنة شوشت الرؤية ) ولا التلاتة ؟؟؟
وضع دونغهي يده على عنقه يستشف بعض الهواء الذي تم سحبه من المكان .. صرخ قلبه في مضجعه وهو يتمنى الموت قبل هذه النهاية القاتلة .. نظر لليتوك بعيونٍ غائرة تفيض بالدموع .. نظر له ليتوك بعيون صقرٍ جامح مُصر على مصرع فريسته حتى النهاية .. شدّ قبضته على السكين وأبعدها عن عنقها ومرّرها على ذراعها تاركاً جرحاً ليس بالعميق .. اهتز جسدها في يديه وانبعثت منها صرخة ألم ورجفة .. أحقاً سيُمزق جسدها وهي حية ؟! ..
فرت الدماء هاربةً بسرعة من الجرح لتسقط على يده الممسكة بها .. استشعرها ليقشعر بدنه ويرتجف فؤاده .. أجُننت ليتوك ؟ رفع رأسه ليرى طيفها أمامهُ كانت ترتدي ثوباً حريرياً أبيضاً فضفاض .. وشعرها الأسود الطويل منسدلٌ على ظهرها وأكتافها يتطاير وكأن هناك عاصفةُ هواءٍ قوية .. غُرتها شارفت على تغطيه عينيها .. وجهها يلمعُ وكأنها ملاك .. ابتلع غصته بصعوبة وانهمرت دموعه بغزارةٍ أكبر .. وكادت عينيه أن تنفجرا من شدة ضغطه عليها ليتأكد من أنهُ يراها حقيقة .. راحت شفتاه ترتعدان وهو يُتمتم بصعوبةٍ " نـ..ـووور " .. ابتسمت لهُ وأومأت .. اقتربت بهدوءٍ ووضعت يدها على يده المُمسكة بالسكين .. ثم أنزلتها ...
سقطت السكين من يده .. وهو يرى لمستها ولكن لا يشعرُ بها .. بلّ الشعور ما أراده أكثر حتى من قدرته عن التنفس .. حرّر شفاههُ المتعانقة ليُلقي بحروف الشوق خارجاً .. فإذا بها تتلاشى كالضوء وكأنها لم تُوجد يوماً .. صوت كسرٍ قوي صدر عن الباب عندما حطمهُ جنود كيبوم الذي اتصلت به والدة ليتوك مستنجدة وبدون أدنى جهدٍ عرف إلى أين هو ذاهب .. ركض الجنود نحو ليتوك الذي يُمسك بعبير ورأسه مُطأطأ .. انتشلها أحدهم من جسده بسرعة ..
 وركض جندي أخر يساعد دونغهي ويُحرر وثاقة مساعداً إياهُ على الوقوف بإعجوبة .. كانت عبير تتحسس ذراعها وهي تنظُر لليتوك بدهشة .. ظنت أنها ميتة لا محالة .. ولكن هي الوحيدة التي تعلمُ أنه ألقى السكين قبل وصولهم وسمعت تمتماته .. ألهذه الدرجة استطاع طيفها الذي لا بُد أنه رأه أن يُثنيه عن فعل شيء كان يحتاج لعدة رجال يمنعونه ..
 رغم كراهية كيبوم لفكرة أنه أنقذ دونغهي .. إلا أنه وبعد هدوءٍ نفسي وتفكير عاد لرجل الشرطة صاحب الأخلاق والمباديء بالطبع سينتقم ولكن ليس بتلك الطريقة .. اقترب من ليتوك وهو ينظر له بتفحص .. عيناهُ كانت ناعستان وكأنه على وشك فقدان الوعي .. ويرتعد ودموعه لا تتوقف حسرةً .. أكانت أمامه لمسته ولم يشعر بها ؟ من جديد رحلت قبل أن يعتذر أو يضمها .. بدى كمومياء الفراعنة الواقفة في تابوتها بشموخ ولكنهُ أبداً لا روح فيها .. هز جسده رافعاً طبقة صوته : ليتووك فووق , اللي انت فيه ده مينفعش فوق عشان , ( صمت يكتم دموعه التي تحاول الانزلاق ) فوق عشان خاطر ننتقم سوا من اللي عملوا كدا , بس ننتقم صح يا ليتوك , مش عايز تنتقم لمراتك وحبيبتك ؟ طب مش عايز تنتقم حتى لابنك اللي مات معاها ؟ ( صرخ به )
هزت الكلمة أركانهُ كالجبل الراسي عندما يتعرضُ لهزةٍ أرضية عنيفة تتساقطُ حجارته ببطء .. هكذا تساقط كيانه ومعه روحه .. لم يعي الكلمة .. ظلت تتردد بداخله .. رفع رأسه ببطء وهمس بصعوبةٍ : نـ نور كانت حامل ؟
كان صوته واهناً محشرجاً لا يكاد يخرجُ من حلقه .. ارتفع حاجبا كيبوم من الصدمة .. إذاً لم يكُن يعرف ؟ لم تخبرهُ نور يومها .. جحظت عيناه وتخبطت قدماهُ ببعضهما يبدو أنه بدون قصد أضاف نيران ألمٍ جديدة إلى قلبه .. تساقطت دموعه وأومأ بوهن وبنفس الصوت المُحشرج قال : حامل في  3 شهور تقريبا , كنت عاملهالك مفاجأة لما ترجع هي تقولك عليها
صدح صراخ عبير على حين غرة ليسكتهم جميعاً وهي تهُز جسد مروة المُسجى أرضاً وتتساقط دموعها حتى أنها بللت الأرض صانعةً بركةً صغيرة للغاية : مروة , مروة ردي عليا مالك ؟
توقف قلب كيبوم عن النبض وانزلقت يداه المُمسكة بكتف ليتوك .. هبّ راكضاً نحوها .. أزاح جسد عبير بيده وتفقدها بجنون وجسدها يُصبغ بالابيض .. وأخيراً ذاب جبل الجليد الذي غلف قلبه طوال الفترة الماضية .. ليغمرها بين ثنايا صدره وهو يصرخ باسمها .. وليكتمل المشهد الذي انتشى القدر وهو يُسطره ويُلاعبهم فيه كالدُمى .. أغمض ليتوك عينيه وملأ رئتيه بالهواء ومِن ثَم فتحهما ونظر لدونغهي الجاثي أرضاً بجوار العسكري يسعل ويبكي ويحاول الوقوف للوصول إلى مروة التي اغتصبتها أحضانٌ غير أحضانه ..
التفت الجميعُ في ذهول وتجمدت الدموع في العيون وخرست الصرخات والكل يُحدق بجسدٍ واحد .. سار ليتوك نحوه .. دفع العسكري الذي يحاول مساعدته .. أمسك بشعره مجدداً ورفع جسده بيدٍ واحدة وهو يُمسك بيده في محاولة لتخفيف الألم .. اتجه ليتوك نحو وجهةٍ يعلمُها جيداً ولم يبذل جهداً ليصل لها .. نعم إنها مدفئة يحترقُ فيها الحطب .. نيرانُها كانت ضئيلة لأن الحطب أوشك على الاحتراق كاملاً ..
انحبست الانفاس وتلاشى الأوكسجين من الوجود بأكمله عندما صك ليتوك أسنانه حتى أن الصوت اقشعر له بدن الجميع .. وبعد أن وعوا ما ينوي فعله وقبل أي رد فعلٍ منهم .. وضع ليتوك وجه دونغهي على الحطب المشتعل لتأكل النار ملامحه .. وينبعث صراخٌ جمد الوقت عن المُضي !!!
مرّ الوقتُ لم يعرف أحدٌ كيف مرّ .. بات البُكاء ركناً أصلياً من أحداث روايتنا .. أصبحت الدموع هي سيدة كلُ المشاهد .. فها هي عبير تبكي وتصرخ ألماً عصف بها يأبى أن ينتهي .. وهي تركُض بجوار السرير النقال الذي يحملُ جسد دونغهي إلى المشفى .. وعلى الناحية الأخرى وقف كيبوم متحيراً يكادُ يقفدُ عقله .. أيركض مع جسد مروة الذاهب للمشفى .. أم يحتضن جسد ليتوك الجاثي أرضاً يُناشد الحياة أن تنتهي من سلب أنفاسه دفعةً واحدة وليس ببطء كما تفعل .. انتهى هذا المشهد القاسي ليبدأ ما هو أقسى منه .. فعلى الفراش جسدٌ يستشف الحياة بصعوبة ويدُ كيبوم تُمسك به بقلبٍ لم يخمُد حبهُ يوماً .. وها هو الجندي أوصل ليتوك حيثُ منزل والدته .. بعد أن نهض متكئاً عليه وهمهم بصعوبةٍ لكيبوم أن يُرافق مروة !
***
الموت ! لِمَ هي كلمةٌ قليلةُ الحروف رهيبةُ الأثر ؟ موت أحدهم أهو بتلك السهولة ؟ أهو بضع حروفٍ لا عناء في نُطقها ؟ هل ندري حقاً أن ثلاثة أحرف تجمعت في كلمة موت يُمكنها أن تُدمر أناسي كثيرة .. هل نعي أن موت الشخص هو عدم وجوده بعد اليوم ؟ استحالة رؤياه أو لمسه ! .. هلا شعرنا يوماً بالموت ؟
يالهُ من تعبيرٍ مدمر .. أن نشعر بالموت ! لم يكُن بالأمر الهين على فؤاده المنفطر أن يشعر بموتها .. لاحقتهُ عيناها يوم الرحيل .. نظراتها مازالت تعتمل صدره .. جروحها تركت ندوباً في قلبه .. ندوباً تؤلمه ! تخنقُ أنفاسه .. تضغطُ على أعصابه .. كانت تلك المشاهد لا تكفُ عن مهاجمته والتلذذ بهيئته التي فقدت ملامحها .. بذاته التي فقدت وجودها .. بانكسار نفسه والذي بعدهُ يهون كلُ شيء ..
استحالة الحياة لرجلٍ تحطم كبرياؤه .. لرجلٍ شعر بالعجز .. لرجلٍ تبعثر شرفه أولاً .. ثم تمزق ثانياً .. وذُبح أخيراً .. الأمر ليس بالبسيط أو سهل الاستدراك .. إنهُ وادي من الظلام مُشبع بالعذاب .. لديه المزيد والمزيد .. أظلمها ؟ نعم .. كيف ؟ عندما حطم كل ما بينهما في لحظة .. عندما صفعها لذنبٍ لم ترتكبه .. تحملُ طفله بداخلها وهو أوجعها على وهم .. لم ينتظر ثوانٍ فقط ليفهم .. لم يسمع دفاعها حتى وأصدر حكمهُ الجائر .. ماتت ولم يتأسف!
ماتت ولم يُبارك صغيرهما ! ماتت ولم يحتضنها ! ماتت ومازال الشوق متقداً .. على الأطلال بكى حتى نفذت دموعه .. مُديني أيتها الحياةُ بالدموع .. أعطني دموع فلم يعد لدي دموعٌ لأبكي .. لو استطاع قلبي لركض وراءكِ ولو ذهبتِ للجحيم .. كلُ شيء رائع .. كل الذكريات الجميلة .. كلُ ما يشبهُ العطر بيننا تلاشى أو أصبح كالرماد المحترق .. أنظر لنفسي في المرآة فأرى طاعناً في السن أو مُعمر .. التجاعيد ملأت وجهي .. أرى رجلاً مجنوناً يبكي ويضحك .. أرى مسخ يُحاول الفتك بيّ .. رحلتِ بدون كلمة وداع .. تركتِ ليّ كل الألم وحصل التراب على شرف احتضانكِ بعد أن لحق بيّ أنا العار .. غادر جسدكِ الحياة ولكن روحكِ بداخلي تنتشل روحي ليغادرا تاركين جسدي كوغى الحروب .. اشتقت إليكِ .. فأين أنتِ الآن ؟
كان منكمشاً في أحد زوايا غرفته يحتضن قدميه دافناً بهما رأسه .. أمواجٌ تتلاطم بداخله وذكرياتٌ تقتات على نزيف قلبه .. وجسدٌ يصرُخ طالباً منه الرحمة فما عاد يتحمل ما يفعله به .. تتردد على مسامعه كلماتُ والد نور الذي ألقاها عليه كألسنة اللهب وغادر بعدما استنجدت به والدتهُ ليُخرجه من حالته تلك التي باتت مراسم حزنه المُعتكف عليها بشغف .. ألقى كلماته وغادر ...
- وانا ف عمرك , وقع تحت ايدي قضية , قعدت اجري وراها بالشهور , وفي الاخر اكتشفت ان ابوك صاحب عمري بيجري ورا نفس القضية , اتعاونا احنا الاتنين وبعد سنة كاملة , وصلنا لكيم وعرفنا شغله الوسخ , عارف كانت النتيجة ايه ؟ رصاصة خلصت على ابوك , وتهديد ليا , حرقت الورق وكل الادلة وعشت ميت مش عارف انا كده ضيعت دم صاحب عمري هدر , ولا حافظت على عيلته , واما كبرت انت وكيبوم ووصلتوا لنفس اللي وصلناله حاولت امنعكم بس ده قدر ومكتوب محدش له يد فيه , انا حاسس بيك انت ماتلك مراتك وابنك او بنتك , وانا ماتلي مراتي وبنتي , بس انت بتعذبني وانا شايفك كدا , انت وكيبوم ولادي انتوا الاتنين واحد , متعذبونيش اكتر بحالتكم
حقائق مؤلمة أكثر تُكشف .. اهتز جسده من شدة الانفعال وصرخ بدموعه التي لا تتوقف : انتوا مش عارفين حاجة , محدش حاسس بيا , محدش هيحس بيا , انا مراتي اتقطعت قدام عيني ومعرفتش اعملها حاجة
تجرحت حنجرته ضغطه عليها .. نهض الوالد وهو لا يقل سوءاً عن حالة ليتوك .. ولكن كل ما قاله : بعد ما خسرت مراتي وبنتي , ندمت اني ضيعت دم صاحبي , حزني وعياطي واحساسي بالذنب , موصلونيش لاي حاجة غير لانسان عايش من غير روح , عايز تبقا انسان عايش من غير روح ؟ انا كنت بحاول امنعك , بس دلوقت انا اللي بقولك كمل لحد ما توصل لحق نور واللي كان ف بطنها , عشان لو خايف تخسر حاجة ف انت مش هتخسرها دلوقت لكن هتخسرها بعدين , بس اهم حاجة انتقم صح , دونغهي مجرد عروسة بتتحرك بخيوط ف ايد ناس تانية , مش هو دة الي المفروض تنتقم منه , انتقم صح من الناس الصح
غادر بعد تلك الكلمات .. فتح ليتوك عينيه واعتدل في جلسته .. رمق الإطارات المُعلقة على الحائط لشهادات تخرجه من كلية الشرطة وأخرى نتيجة نجاحه في مهمةٍ ما .. والعديد العديد من شهادات التقدير الخاصة بعمله .. نهض كوحشٍ يُحاول إفراغ شحنة غضبه .. حطم الإطارات .. أخرج الشهادات ومزقها .. فتح الخزانة وهو ثائر بجنون .. أخرج بذلته العسكرية مزقها رغم صلابة قماشها ..
لتبرز أوردته المُحمرة ووجهه محتقنٌ بالدماء .. أمسك أوراق العمل على مكتبه مزقها هي الأخرى .. أطاح بكل شيء في مكانه أرضاً .. حطم زجاج الطاولة بيده .. أمسك الأصفاد الحديدية وألقاها على المرآة لتتحطم هي الآخرى .. وقف يلهث ويده كونت بركة دمَ صغيرة أسفلها .. كان طيفها يُلاحقه يُصر على تدميره .. صرخ وهو يحطم كل شيء يخصُ عمله .. ضرب يده بالحائط .. أغلق عينيه حتى كاد يُفجرهما من شدة الضغط عليهما .. ضرب رأسه في الحائط بعنفٍ وهو يراها تبكي وتعاتبهُ على ضربه لها ..
 كان يزيدُ من قوة الضربات وهو يصيح : كفايا يا نووور .. حرام عليكي مش قادر كفايا
صرخات والدته من الخارج وهي تبكي بهستيرية تحاول فتح الباب المغلق بإحكام .. تتوسله ألا يؤذي نفسه .. أصوات البكاء والصراخ كادت تفتكُ به .. نزف رأسه لشدة الضربات .. وانهار جسده أرضاً .. وامتدت أصابعهُ بإعجوبة للمسدس الساكن أرضاً .. قام بتعميره ! وضعه بين حاجبيه ! أغمض عينيه ويدهُ على الزناد تضغط !!!!


ويتجدد اللقاء مع الفصل الأخير من ملحمة
( على حافة جهنم )





هناك تعليق واحد: