الخميس، 21 يوليو 2016

*✿▒ شيزوفرينيا ∵ Schizophrenia 『 الفصل الأول』▒✿*






Written By : Ňoồr




تجسدت الذكريات ببطء وكأنها فقاعاتٌ تطفو فوق سطح بئر بلا قرارٍ .. بدت وكأنها تدق المسمار الأخير في نعش هذا الحائط الفولاذي الذي وضعه ليصد هجوم تلك المرحلة من حياته على عقله المرهق منها بشدة .. بدى الأمر وكأنه يحاول انتزاع جذور زهرة ممددة في الأرض دون أن تموت .. ظن أنه بكل ما يملك من طاقة استطاع حماية نفسه من نفسه القديمة التي دمرت كل شيء ذا رونق في الماضي حتى أنه بات يخشى من مجرد كلمة " ماضٍ " .. كم قاسية هي تلك التجربة التي مرّ بها !

أزاح الستائر ووقف يملأ رئتيه بنسيم السويعات الأولى من الصباح .. كوب القهوة شديد المرارة الذي يمسكه تطاير شذاه ليُراقص حواسه .. أغمض عينيه يضغط شفته السفلية .. كم يعشق تلك الرائحة وذاك الطعم المر الذي بدونه لا يمكن ليومه أن يكتمل .. ارتشف بضع رشفاتٍ بهدوءه اللذيذ وابتسامته بدأت تُزين ضواحكه كعروسٍ تحتل ببطء مقعدها في حفل الزفاف .. بدأت تلك النسمات تُشاكس غرته التي أنزلها اليوم على غير العادة لتغطي جبهته .. ضايقت عينيه فأفسدت ابتسامته عندها فقط رفع إصبعهُ ليرجع خصلات شعره للخلف باستياء واضح .. وعاد ينظر للساعة التي تعانق معصمه .. حسنًا هذا جيد مازال هناك وقتٌ كافٍ لأستمتع بقهوتي الصباحية قبل الذهاب .. توًا ، كان هذا ما فكر فيه عند معرفته للساعة ..

عند هذه النقطة ترك هيتشول القلم الذي عانقه لمدة نصف ساعة وهو يخط تلك الكلمات ثم رفع رأسه عن كومة الأوراق تلك ليواجه سوجين التي كانت تجلس على ذات الطاولة قُبالته تمامًا بينما تسند رأسها لذراعها المستند عموديًا للطاولة .. لوى شفته بطفولية صائحًا : أنا خائف !





استقامت في جلستها وعقدت ذراعيها عند صدرها تزفر بقلة حيلة : ولكن مما تخاف ؟ يا إلهي كيف لأشهر كاتبٍ هذه الأيام أن يُصاب بالخوف ؟
دفع الأوراق التي كان يخط عليها تلك الكلمات منذ قليل لتستقر أمامها ونهض بتأفأف : وهذا ما يُخيفني حقًا .. أتعرفين سوجين ( اعتصر جبينه بين قبضته ) النجاح الباهر الذي سببته روايتي الأخيرة أصابني بهستيرية الخوف من الفشل ! بتُ أخشى أن أكتب أي شيء يقارن بها ويخسر أمامها ويُقال أنه  بدلًا عن التقدم أنا فشلت !


نظرت لهُ بأسى مِن ثَم أمسكت بالأوراق ونهضت تربت على كتفه : توقف عن التفكير بتلك الطريقة .. أنت بذلت جهدك في تجميع هذه الفكرة وماتزال تبذل أقصاه حتى الآن .. هيا تشجع وأكمل ( طأطأ رأسه يرسل تنهيدات عميقة .. فابتسمت بلطف ووضعت أصابعها أسفل ذقنه لترفع رأسه ونظرت في عينيه بثقة ) أنا بجانبك وأنت يُمكنك فعلها .. رواية شيزوفرينيا يجب أن تصبح معجزة بكل المقاييس . 

نظر في عينيها بضياع فاهدته توًا ابتسامة حنونة عندها بدأت شفتاه تنفرجان لتكشفا عن ابتسامة مشرقة لرجلٍ حقًا فاتن !

قبل بضعة أسابيع من هذه المحادثة .


لعلّها كانت الساعة السابعة مساءً عندما أتم صنع كوب الحليب خاصته ووضعهُ على المنضدة في غرفة الجلوس الكبيرة .. أحضر بعض الوسادات وألقاها أرضًا وقام بتشغيل شاشة العرض الكبيرة التي تحتل معظم مساحة الحائط المقابل له .. الآن وأخيرًا تقعد الأرض مُربِعًا قدميه وأمسك بالكوب ليرتشف منه وهو مستغرق في مشاهدة أحد الأفلام الأجنبية الرومانسية .. مرّت ربما نصف الساعة ووصل لأذنه صوت خطوات تضرب على الأرض .. انفرجت أساريرهُ ببطء حتى ظهرت لثته وعيناه تتحرك بدائرية مترقبًا .. ثوانٍ وشعر بجسد أحدهم يضم جسدهُ من الخلف .. توسدت كتفه وذراعيها يحيطان خصره .. وعلى حين غرة طبعت قبلتها على خده .. احمرت وجنتاه وعيناه تلمعان مِن ثَم أخفض رأسه لتنزلق بعض خصلات شعره الطويل الناعم على عينه .. عندها مدت أصابعها وبدأت ترتب تلك الخصلات وتعيدها حيث إخوتها .. تنحنح بهدوء قائلاً : سوجينآآه اشتقت إليكِ 


توسعت ابتسامتها أكثر ولاتزال ترتب شعره : وأنا أيضًا .. بالفعل شعرت أن هذان اليومان وكأنهما ألف عامٍ .. الحياة بدونك كجسد خالي من القلب !

عضّ على شفته السفلى ونظر أرضًا لثوان .. ولما رفع رأسه ينظر لشاشة العرض أمامه توسعت عيناه وبسرعة سحب يده التي كانت تربت على يدها ليضعها على عينيه لمجرد رؤية أبطال الفيلم في وضع حميمي للغاية .. توًا ، انفجرت سوجين ضاحكة حتى أنها ألقت بجسدها على الأرض تضرب عليها بهستيرية .. اكفهر وجهه وصاح بها : يــا ! لماذا تضحكين هكذا كما المعتوهين ؟؟

ظلّت تضحك حتى احمر وجهها وأصبح كحبة الطماطم ثم اعتدلت وهي تمسك بمعدتها وتتأوه من ألم الضحك وتقول بصعوبة : يا إلهي ! هيتشول أنت حقًا غريب الأطوار .. رجل ناضج ومتزوج وأيضًا كاتب للروايات الرومانسية وحتى الآن وبعد كل هذا لازلت تغمض عينيك عندما تشاهد مثل هذه الأوضاع الحميمية .. يــا ! أنا الفتاة ولم أخجل 

قطب ما بين حاجبيه ورمقها بنظرة عابسة : وما شأني أنا إن كنتِ وقحة ؟

عادت لتضحك من جديد على ملامحه ووجهه الذي ازداد احمرارًا .. وأشارت عليه بسبابتها : وجهك يشبه حبة البندورة 

اغتاظ منها كثيرًا فنهض وأحضر أحد رواياته المطبوعة ومدها لها بعد أن قام بفتحها على إحدى الصفحات : أيتها الغبية انظري أنا من كتبت هذا أنا لا أخجل !

أكملت ضحكها وهي تقرأ ولا تستطيع السيطرة على نفسها ولما انتهت صاحت : يا إلهي وكأنك تملك شخصيتين .. لا يمكن تخيل أن زوجي العزيز مريض بـ الشيزوفرينيا ( الفصام  ) !

صمت هيتشول لثوانٍ ينظر لها بعيون ضبابية .. حتى أنها دُهشت هتفت باسمه فأمال رأسه ينظر لها بعمق وكأنها ألقت عليه لعنة أو تعويذة جمدته .. وفجأة نهض حيث المنضدة التي تقبع فوقها الأقلام والأوراق .. وأمسك أحدهم ثم خط في منتصف الورقة البيضاء كلمة واحدة بخطٍ عريض ألا وهي (( شيزوفرينيا )) !

توسعت عيناها بدهشة وهي توجه سبابتها نحو الاسم .. وما كادت تفتح فمها لتُخرج كلماتها حتى أطبقت شفتيها من جديد مرهفة السمع لحديث هيتشول : أعتقد وأنه بعد مدةٍ طويلة من الجلوس هكذا خالي الوفاض دون عمل .. أضاءت فكرة في مخيلتي بسبب حديثكِ هذا .. ولكن عليّ أولًا تجميع المعلومات

زمت شفتيها وحاجبها الأيمن ارتفع عن وضعه الطبيعي بضع إنشات ثم عادت لفتح فمها لتتحدث : يا إلهي قفزت لذهنك فكرة وأخيرًا بعد كل هذا الوقت لأنني فقط ذكرت كونك مجنون ولك شخصيتين





وجه ضربة خفيفة لرأسها بوجهٍ مُمتعض .. ثم أجاب على تساؤلها بعيون هائمة : نحن الكتاب نستطيع تحويل أي شيء لرواية بشغفنا للكتابة .. حتى الكلمات في حضرتنا بباطنها قصة نستخلصها ونبدع في تأنيقها لتكوين ما يُشبع غريزتنا للكتابة .. قد تكون كلمة عفوية مرّت على مسامعنا أو مشهد وقع نظرنا عليه ولكنهُ يتكثف بداخلنا مكونًا فكرة هائلة .. كما هو الحال معي الآن أشعر بأن بداخلي بركانًا يثور شغفًا .. لا بُد من تهدأة ثورة هذا البركان والذهاب فورًا لسونغمين فقد دقت ساعة العمل

انسل من بقعة المكان الذي كان يملؤه ليتركه الآن فراغًا لا يحتوى سوى على الهواء وجسد سوجين الساكن في المقابل غارقة في التفكير تكاد تُجزم أن زوجها بالفعل مختل .. علّ جميع العباقرة نزولًا للمفكرين والكتاب بالفعل مجانين

وصل توًا لعيادة سونغمين القابعة في حيٍ راقي .. بعدما هبط من سيارته وألقى التحية على حارس البناية الفاخرة .. طلب المصعد الذي أوصله للطابق السابع .. دلف من الباب المفتوح حيث هذه الشقة الواسعة المُحولة لعيادة طبية .. أثاث فخم لعيادة جدرانها بيضاء مريحة للأنفس ويقبع قبالة الباب طاولة كبيرة الحجم جميلة الشكل فوقها جهاز حاسب آلي ومجموعة من المستندات والأوراق التي يستخدمها الممرض لتسجيل أسماء الحالات التي ترد هذه العيادة .. كعادته ولج بسرعة لغرفة الكشف دون استئذان ولم يستطع أن يلحق به الممرض قبل أن يلج للداخل .. اتسعت عينا سونغمين وهو يراقب دخول صديقه هكذا دون مراعاة لهذا المريض المُمدد على السرير الجلدي في هذه الغرفة الضخمة التي تبعثُ طلاءتها في الأنفس الراحة والسكينة وموسيقى هادئة تتخلل الخلفية .. توًا ،انتفض جسد المريض وهبّ واقفًا وأسرع الخطى للخارج حيث والده الذي ينتظره .. نظر له هيتشول بعمق فاتسعت عيناه وظلّ يراقب هرولته للخارج بتركيز حواسه كاملة حتى فوجيء بيد سونغمين التي ضربت كتفه بعنف وهو يصيح به : كيف لك أن تقتحم المكان هكذا .. كم مرةً عليّ أخبارك أن هذه عيادة وهؤلاء مرضى ويجب احترام هذا ؟ 



انتفض جسد هيتشول بفزع ونظر له مضيقًا عيناه وهو يمرّر أنامله على كتفه الذي آلمهُ كثيرًا جراء ضربة سونغمين ثم استرسل حديثه دون مبالاة مستفسرًا : هذا الشاب .. أهو مدمن ؟

قطب سونغمين حاجبيه مستاءً بشدةٍ من تصرفات صديقه الحميم وعدم مبالاته فتحدث بحنق : بالفعل أنت شيء آخر سيد هيتشول .. هذا كل ما يهمك ولم تلقي بالًا لحديثي كالعادة .. ثم لا يُمكنني إجابتك فهذه أسرار مرضايّ

لوى شفتيه في سخرية وهو يتأفأف .. ثم تقعد الكرسي القابع أمام طاولة مكتب سونغمين الفسيح والمليء بالكثير من الأشياء .. في مقابل هذا الكرسي هناك آخر بنفس الحجم والهيئة ويفصل بينهما طاولة آخرى صغيرة للغاية .. وخلف طاولة المكتب الرئيسية كرسي جلدي يتحرك بأرجل خاص بسونغمين .. تقعد هو الآخر مقعدهُ بتأفأف .. فبدأ هيتشول تساؤلاته من جديد : إن كان مدمنًا فلمَ آتى لعيادتك ولم يذهب لمصحة .. هل أصبحت طبيب لمعالجة الإدمان عوضًا عن كونك طبيب نفسي ؟

زفر سونغمين باستياء ثم رفع القلم بأنامله وراح يضرب به على الطاولة بتهديد : توقف عن تساؤلاتك الفضولية نحو المرضى خاصتي فلن أجيبك .. ولكن أيها الجاهل المدمنون يحتاجون للعلاج النفسي والذي هو أهم وأخطر مرحلة للخروج من كارثة الإدمان التي عصفت بحياتهم تاركةً خلفها كل شيء مُدَمَر

أطرق هيتشول يستمع لهُ في اهتمام ثم قال بجديةٍ واضحة تقفز من بين قسمات وجهه : أحتاج مساعدتك سونغمين .. أخبر مرضاك بالقدوم في وقتٍ لاحق فأنا اليوم سأحتجزك لصالحي

مرّ الوقت بسرعة وخرج هيتشول من عيادة صديقه منتشيًا بما حصل عليه من معلوماتٍ وفيرة ومشاعر أوفر .. لقد كانت الأفكار تهجم عليه وتتشابك معًا كلما غاص سونغمين في تفاصيل أكثر عن ما يود هيتشول معرفته .. وفي النهاية خرج من عنده بحصيلة مذهلة من المعلومات والأفكار البدائية .. توًا ، نظر لهذه الكتب التي يتأبطها بحرص وهو يعبر الرصيف حيث سيارته المرابطة عند الرصيف الآخر .. سيجمع معلوماتٍ أكثر من هذه الكتب كما أخبره سونغمين .. بمجرد وصوله للمنزل دلف غرفة مكتبه معلنًا حالة الطوارئ القصوى والتي يُعلنها دائمًا كلما كان على وشك كتابة رواية ما ويحاول العناية بجنين الفكرة الأساسية لها لينمو الجنين بطبيعية وصحة جيدة أو الأصح لتنمو الفكرة بحبكة درامية مذهلة .. ظلّ حبيسًا لهذه الغرفة منكبًا على تلك الكتب يلتهمها علّه يتعثر في ضالته فيصبح هذا أفضل تعثر حصل عليه في حياته .. هكذا مرّت الأيام حتى تلك اللحظة التي بدأت أوراقهُ البيضاء تُملأ بتلك السطور التي تخُص روايته ابنة أنامله .. الآن وبعد كلمات سوجين التشجيعية لملم أوراقه وعاد لغرفة المكتب وانذوى بها عن العالم تاركًا العِنان لحواسه كي تُحلق في سماء الخيال ليخرج من هذا التحليق في النهاية بتحفةٍ فنية جديدة تُضاف لتحفه المكتوبة ليُشبع غريزته ككاتب يتنفس الحروف ويُعِدها أوكسجينه وبالمقابل يُشبع غريزة قارئ إدمانه رائحة الكتب التي تفوح كلما قلّب صفحاتها ليغوص في أحداثها أكثر غارقًا في لذةٍ لا تقبع  إلا بين سطورها .. عانقت أناملهُ القلم وراح يرسم على هذه الأوراق متعة لا شبيهةً لها بين المُتع .. خط بحروفٍ متأنقة بداية روايةٍ ستبحر بمشاعر من يقرؤها حيث هذا العالم القابع بين الخط الهُلامي الذي يفصل الواقع عن الخيال في مزجٍ رهيب بينهما سطر هيتشول حروف روايته واضعًا عليها آمالًا ضخمة ...

* * *

تحرك الشاب من أمام النافذة .. وضع كوب القهوة الذي كان يمسك به على المنضدة بعدما انتهى منها و وقف أمام مرآته يضبط هندامهُ للمرة الأخيرة .. ثم انتقل لربطة عنقه يحاول جاهدًا ضبطها هي الآخرى ولكن لا فائدة لازال عاجزًا عن ضبطها كأنما هو طفل .. وقف يتذمر باستياءٍ واضح وهو يكاد يفقد عقله .. نظر لساعة يده فتبين له أنه لم يتبقى الكثير .. لذا وأخيرًا ، صاح ليتوك مناديًا : هنري تعال لغرفتي قليلًا لو سمحت

فُتح مقبض الباب في ثوانٍ معدودة ودلف هنري بوجهٍ مُحمر من كثرة ما يحاول كتم ضحكه .. نظر له ليتوك بدهشة أكان واقفًا خلف الباب؟ .. قطب حاجبيه في استياءٍ واضح من ابن عمه الشخص الوحيد المقرب له في هذه الحياة .. مقربٌ أكثر من والدته شخصيًا .. أزال هنري باطن كفه عن فمه وانفجر ضاحكًا .. لذا ، وضع ليتوك يديه عند خصره مضيقًا عينيه بتوعد .. خفُتت ضحكات هنري ثم تنحنح مردفًا : بتذكر أنك في السادسة والعشرين من عمرك ولا تستطيع ضبط ربطة عنقك فهذا أمرٌ يكاد يقتلني من الضحك ( رمقهُ ليتوك بعيونٍ ضبابية باردة ثم أشار له بإصبعه ليتقدم .. سار هنري نوحه بسرعةٍ متوجسًا من نظراته وبدأ يضبطها له ولما انتهى ضرب على كتفيه عدة مراتٍ كأنه يتأكد من هندمة ملابسه ) أصبح كل شيء مرتبًا .. تبدو أنيقًا وجذابًا ، كالعادة



دفعهُ عنه بعدما انتهى وابتسم في سخرية محركًا إصبعه في دوائر أمام رأس هنري : وبملابسك تلك تبدو كمختل عقليًا وليس محاضرًا في جامعة

نظر هنري لملابسه الشبابية على عكس بذلة ليتوك الأنيقة ثم أردف باعتدادٍ بالنفس : الفتيات تُحبني هكذا أكثر .. على ذكرهن احذر أن يصبنك بالجنون .. إنهن بارعات الجمال ويركضن خلف المواعدة عكس الفتيات في جامعة ألمانيا الغبية ( رمقهُ ليتوك بعيونٍ حادة كما الصقر بمجرد تلفظه بكلمة ستصاب بالجنون .. صك أسنانه بغضبٍ يشتعل لهيبه في عينيه وتيبست ملامحه ليكتسيها البرود مجددًا ثم غادر الغرفة بخطى سريعة غاضبة هي الآخرى .. توًا ، أدرك هنري أيُ خطأ فادح ارتكبه فضرب على جبهته بباطن كفه متمتمًا بالشتائم ) يا لغبائي ! كان لا بُد أن أكون أكثر حذرًا حولّ حديثي عن هذا الأمر

ركض بسرعة خلفهُ حتى رأه يصعد السيارة .. قفز درجات السلم بتهورٍ مصحوب بالمرح كعادته وفتح الباب الآخر للسيارة وصعد لجواره .. أدار ليتوك محرك السيارة وانطلق حيث الجامعة .. إنه بداية الفصل الدراسي لهذا العام وهو قد عاد لكوريا بعد سنين عديدة أمضاها في ألمانيا برفقة والدته و هنري الذي عاد قبله بفصلٍ واحد ودَرّس في الجامعة .. واليوم حان الموعد ليُلقي ليتوك محاضرته الأولى في بلده الأم

* * *

بين ثنايا المكان يقبع سوادٌ رهيب وكأن الشمس قد نُفيت تمامًا من الوجود .. جدران ضخمة يكتسيها اللون الأخضر الناجم عن التعفن .. رائحة نتنة تجوب بقاع الغرفة الباردة بشدة .. صوت قطرات الماء تضرب الأرض بعدما تنزلق من تلك الماسورة الحديدية المصابة بالصدأ .. ( تك .. تك .. تك ) هذا الصوت كان الوحيد الذي يسمع برفقة أنين خافت مُعبأ بمرارة الموت الزاحف نحو هذا الجسد الضئيل المُلقى أرضًا .. بتدقيق النظر يمكن التعرف عليها كفتاة في الخامسة عشر حيثُ بدأت أنوثتها تضغى .. شعرها الحريري الأسود تم قصه حتى باتت كالصبية .. الدماء تسيل من وجهها وجسدها الذي يرتعش كون ملابسها أيضًا مُمزقة وتصارع أوصالها برودة الأرض القارسة .. شفتاها الزرقاوتان كانتا تهمسان بصعوبةٍ من بين ابتسامة واسعة مرسومة عليهما : قتلته ! نعم قتلته .. ولو يعود الزمن مرةً أخرى لقتلتها معه .. أبي هل أنت فخور بيّ الآن ؟؟

اهتز جسدها بعنف لتفتح عينيها مفسحة المجال لحدقتها المشدوهة بشدة أن ترى الضوء المنبعث من الشرفة .. رفعت أناملها لتستقر أمام الضوء فشعرت بلسعاته .. ازدردت لعابها ونظرت لجسدها الذي دُثر جيدًا بالغطاء .. عقدت ما بين حاجبيها وحركته لتجد ملابسها مُبدلة بالفعل لمنامة رقيقة .. ابتسمت بسخرية وأزاحت الغطاء لنهاية السرير بقدمها وهي تركله بغضب .. تلمست وجنتها لتجدها غارقة بالعرق .. تكاد تُجزم أنها تسمع دقات قلبها المتتالية .. أهذا أثر الذكرى التي راودتها في كابوسها أم السبب شيءٌ آخر .. تلكأت في نهوضها حيث المرآة ولما رأت انعكاسها جحظت عيناها وهي تتلمس وجهها الذي سُحب منه الدم وكأنها على وشك الموت .. شعرت بألم رهيب في مفاصلها فتأوهت ساقطة على الأرض .. سال أنفها بينما تحاول مقاومة آلم عظامها الرهيب وتحريك رأسها لتنظر في الساعة القابعة على الحائط .. بحساب الوقت فقد مرّت ستة ساعاتٍ أي أن أعراض الانسحاب قد بدأت .. زحفت بصعوبة حتى المنضدة فتحتها بإعجوبة ودموعها تتساقط من الآلم الذي يكاد يفتك بها وهي تكتم الصراخ في جوفها .. وصلت أناملها لورقة بيضاء صغيرة مطوية ومحقنة .. جذبتهما وصنعت محلولاً صغيرًا من المادة بداخل الورقة ووضعتها في المحقنة .. أغمضت عينيها بنشوة وحدقتها ترتفع لأعلى والمادة تخترق وريدها وتتسلل به .. عضت على شفتها وهي تبتسم ملء ضواحكها وجسدها يرتخي حتى تسطحت على الأرض تمامًا .. بقيت هكذا لمدةٍ من الزمن وبعدها رفعت جسدها وتمسكت بالمنضدة لتنهض .. تناولت منديلاً وأزالت سيلان أنفها ثم تخلصت من الأشياء التي استعملتها برميها في سلة القمامة .. عندها واتاها طرقٌ على الباب : هيري ! هيريآآه .. عزيزتي هل استيقظتِ ؟؟

تمتمت بسخط : تبًا ! لا تزال تناديني بهذا الاسم السخيف ( توجهت نحو باب الغرفة وقامت بفتحه تنظر للمربية بتململ ) نعم استيقظت

مدّت المربية السيدة باي أوك يدها وقبضت على ذراعها وملامح وجهها متألمة بشدة .. رفعت نظرها لعيني هيري والدموع تترقرق في مقلتيها : مجددًا هيري ؟؟

زفرت هيري بقوة وتفلتت من قبضتها بعنف : وهل كنت توقفت حتى تقولي مجددًا ؟؟

انزلقت الدموع على خدي السيدة أوك وطأطأت رأسها : ستموتين !!

زادت حدة نظراتها وهي تقبض على أصابعها حتى انغرزت أظافرها في باطن كفها واهتز جسدها تصيح : لن أفعل !! لن أموت الآن .. ليس قبل أن أقبض روحها !!


صرخت بها السيدة أوك ودموعها تنهمر بغزارة : توقفِ !! ( صفعتها بقوة لتنظر لها هيري بعيون حمراء كقطعة الجمر وهي تصك أسنانها .. فأخفضت السيدة أوك يدها المرتعشة وهي تقول بنبرة منفعلة ) في السابق كانت عدة شهور في الإصلاحية هي عقابك أما الآن فستموتين !

قهقهت هيري بطريقة جنونية وهي تضع يدها على معدتها لشدة ما آلمتها ولما انتهت صوّبت نظرها الحاد بقسوة لعيني المربية ومن بين اصطكاك أسنانها المرعب بدى صوتها كفحيح الأفعى : ومن قال أني حية ؟؟ لقد مت منذ ذلك اليوم الذي تخليتِ فيه عني ! هل تذكرينه ؟؟ هل تذكرين دموعي وتوسلاتي حينها ؟؟ ( صرخت بها ) قُلت لكِ يومها لا ترحلي فعندما تعودين لن تجدِ هيري سيدة باي أوك!!!

ارتعشت الدموع النائمة عند مقلتيها وزاغ بصرها وجسدها ينزلق للأسفل .. تقعدت الأرض عند قدمي هيري وصارت شهقاتها تتابع الواحدة تلو الأخرى : أنا آسفة !! أخبرتكِ سابقًا أنني آسفة .. كم سنةً عليّ أن أعتذر حتى تعفي عني ؟ لقد كانت بين الحياة والموت كان عليّ أن أختار .. أقسم لكِ أنا آسفة .. افعلي بيّ ما تشائين ولكن لا تُدمي قلبي بهكذا طريقة وأنا أرى شبح الموت يحوم حولكِ .. يكفيني موت واحدة لن أتحمل موتكِ أنتِ الآخرى !!



ركعت برأسها عند قدمي هيري والتي بدورها أخفضت جسدها وهمست بجوار أذنها : سيسعدني كثيرًا أن أراكِ تتلوين من الآلم كالثعبان المجروح على موتي ولكن بعد التخلص منها !!! ( نهضت عن الأرض وغادرت الغرفة لتمسح تلك الدمعة التي انزلقت من عينيها غصبًا بطرف إصبعها وهي تُتمتم ) آسفة سيدة باي أوك على ما أفعله بكِ لكنكِ كنتِ أمي التي لم تنجبني وبعد تخليكِ عني فقدت هيري ابنتك ولا أستطيع الوصول لها حتى الآن .. حينما أجدها سأعود وأتقبل أعذاركِ بل وسأعتذر أنا أيضًا

ظلّت المربية كما هي أرضًا لم تحرك ساكنًا بجسدها وكأن أطرفها شُلّت .. أسدلت جفونها على الدموع وهي تتأوه بحرقة .. رفعت أناملها الهزيلة وضربت على قلبها عدة مرات قبل أن تُجفف دموعها بعنف وتنهض .. عادت لتقف بشموخ وهي تُزيل آثار الدموع وترتب هندامها .. وحينما التفت لتغادر المكان تفاجأت بوقوف السيدة لي يونغ خلفها مباشرة .. تعقد ذراعيها عند صدرها وتعابير وجهها الصارمة كما دائمًا تعتلي ملامحها .. أرجعت خصلات شعرها القصير خلف أذنها ورمقتها بتحدٍ .. بينما ابتسمت لي يونغ بسخرية : لمَ لا تكفين عن محاولاتكِ البائسة في جعلها تعفو عنكِ ؟!

ضيقت حدقة عينيها وأعلنت بثقة تُغلفها القوة : لأنها تتألم ! ابنتي تتألم وأنا لن أقف مكتوفة اليد أمام تآلمها .. سأحميها من الآلم بأي ثمن يمكن دفعه

زادت لي يونغ من حدة نظراتها وهي تصك أسنانها : باي أوك! ( أطالت في نطقها للكلمة بحقدٍ شديد ) إلى متى ستقفين بوجهي ؟



أردفت : للآبد .. أو حتى أتخلص منكِ .. لن أسامحكِ ما حييت ولن أسمح لكِ بتدمير حياة ابنتي أكثر من هذا

صرخت بها بانفعالٍ شديد : توقفِ عن نعتها بابنتك !! لقد تكونت بداخل أحشائي أنا إنها تعود ليّ

ابتسمت بسخرية يقبع بين ثناياها الآلم : أنتِ حتى تتعالين عن نعتها بابنتك ! حسنًا لي يونغ .. نعم هي ابنتك أنتِ ولكن شئتِ أم أبيتِ فأنا المرأة التي ربتها أنا التي أحببتها .. أنا التـ

قاطع حديثهما المحتدم بصوته الأجش : توقفا ! ألا تملان حقًا من حديثكما في هذا الأمر ( اقترب وأحاط كتف لي يونغ بذراعيه وهو يبتسم بشر ) لا بأس سيدة أوك.. لا يُهمنا صدقيني كونكِ تعتبرينها ابنتكِ أو لا ففي النهاية طالما أموالها بين يدينا فلا نُبالي

ضحكت لي يونغ بصوتٍ مرتفع وأردفت : أنت محق عزيزي .. دائمًا محق !

نزل كِلاهما الدرج للطابق الأرضي من هذا القصر الكبير  بينما المربية لاتزال واقفة تعضُ على شفتيها بغضب : لن أدعكما تتمتعان لوقتٍ أطول .. أقسم !!

* * *

تشابكت أناملها معًا خلف ظهرها وهي تتحرك بخفةٍ كفراشة بين الزهور التي يُمكن حسبانها واحدةً منهن لشدة جمالها المشابه لجمالهن .. رغم ذبول وجهها إلا أن ملامحها لاتزال جميلة وطفولية .. فتاة في العشرينيات من عمرها لاتزال محتفظة بجسدها الصغير المميز بين فتيات جيلها كونه الأكثر ضئالةً .. ابتسامتها الجميلة المشاكسة .. حركاتها الطفولية .. كل شيء بها مُفعمٌ بالجمال .. على الرغم من كل الصعاب التي واجهتها وماتزال تواجهها حتى الآن .. هذه هي هيري !! هيري التي لا تبتسم بنقاء إلا خارج أسوار هذا القصر المُعبأ برائحة الموت .. تبتسم وتلهو بعيدًا عن هنا .. عن والدتها التي هي عدوتها الأولى والأخيرة وعن زوج والدتها الذي دمر حياتها للمرة الألف حتى الآن !!!! أزالت تلك الخصلات الشاردة عن عينيها ورتبتهم مع البقية .. رفعت نظرها حيث السماء الصافية وجفونها تهتز وهي تُبلل شفتيها بطرف لسانها .. ماتزال تذكر حتى الآن الساعات الطويلة التي كانت تقضيها في هذه الحديقة برفقة والدها .. كانا يستلقيان أرضًا وينظران للسماء ويحلمان بالمستقبل .. وضعت يدها عند قلبها الذي يعتصره الآلم ويلوكه بين فكيه لتفر من مقلتيها دمعة هاربة من هوة الآلم القابع بأعماقها وهمست بحشرجة : أبي اشتقت إليك .. هل أنت فخور بما أنا فيه الآن ؟ ( فرّت عدة دمعات آخرى حتى ابتلت وجنتها بالدموع .. شعرت بثقل في جسدها فتقعدت الأرض وهي ترتجف ) أبي أنا آسفة .. حقًا آسفة أبي آسفة ( ضربت على قلبها بقوة عدة مرات ) أبي أنت تعلم أنني حاولت أن أتعافى صحيح ؟؟ أبي أنا حاولت أقسم لك .. ولكنني حقًا لم استطع بمفردي .. أبي أنا أحتاج إليك بشدة .. أبي الجرح لازال ينزف !!


وضعت وجهها بين كفيها وراحت تبكي بينما تعض على شفتها لشدة الآلم .. شعرت بيدٍ حنونة تربتُ على كتفها .. بدون أن تلتف عرفت صاحبتها .. لذا ، تعالت شهقاتها أكثر وارتمت بسرعة بين أحضانها .. أحاطتها آمبر بحبٍ شديد وراحت تربت على ظهرها بيد وتمسد شعرها بالآخرى وظلّت هكذا لمدةٍ دون أن تنبس بحرف .. ولما خفُتت شهقات هيري وضعت أناملها أسفل ذقنها لترفع رأسها بعدما أبعدتها عن أحضانها قيد أنملة : كفى بكاءً لهذا الحد .. أنتِ تؤذين نفسك

قبضت على يد آمبر بيديها الاثنتين وهي ماتزال تهتز لشدة انفعال بكاءها السابق عيناها الرطبتان بالدموع تموج بالآلم وتمتلأ بالأحزان كبحت دموعها أخيرًا وهي تتلعثم في نطق حروفها : لقـ لقد نفذت قدرتي على التحمل .. ما عدت أريد هذه الحياة آمبر .. أتوسل إليكِ خلصيني منها

انتقلت عدوى الدموع لعيني آمبر وراحت تنهمر بغزارة لتسقي خديها المتوردان .. أسدلت جفونها على الدموع وطنينٌ رهيب يضرب برأسها كصوت التلفاز المعطل .. كل شيء الآن يتقافز بداخل رأسها الذكريات والكلمات المشابهة التي سمعتها ألف مرة من هيري .. ربما كانت محاولتهما واحدة فاشلة فقط .. ولكن هي تعلم أن الأمر لا يحتمل كلمة فقط مرتين .. هي مرة واحدة .. لقد عانت كما لم يعاني بشري حتى آمبر نفسها تخشى أن تُعاد الكرة .. لقد أُلقيت في المرة الأولى مسؤولية رهيبة على عاتقها .. حاولت بكل جهدها أن تقف بشموخ منفذةً هذه المسؤولية على أكمل وجه ولكنها أضعف حتى من هيري نفسها مَن وجدت نفسها للمرة المليون بعد موت والدها بلا سندٍ حقيقي يمكن الاتكاء عليه .. تحتاج ساعدًا قويًا يحمل جسدها لتنهض كل وقوع ولكنه غير موجود .. رغم محاولات آمبر أن تكون هذا الساعد إلا أنه مع أول محاولة لحملها والنهوض بها من جديد كُسرتا معًا .. مؤلم ! حقًا شعورها الآن مؤلم ومميت .. أن تقف عاجزة كما دائمًا عن فعل شيء يقتل الموت .. مات الجميع وهي تحاول حمايتهم .. والآن هيري على وشك الموت .. ألا تستطيع أن تؤجل موتها قليلاً حتى ترحل آمبر على الأقل .. نهضت ووضعت كف يدها اليمنى على وجهها تزيل دموعها بعنفٍ وهي تُتمتم : لن تموتِ .. إن كنت أنا من سترحل بلا شك فأنتِ مَن لاتزالين تملكين فرصة لا يجب أن تموتِ .. لن أسمح للتراب أن يواريكِ ( التفت لها بوجهٍ حنون وابتسمت ابتسامتها الحلوة التى لم تهدها لآحدٍ سوى هيري بعدما مات من كانت نصيبة في البداية ) ستتخلصين منها لواحدة أفضل أقسم لكِ يا رفيقة دربي الوحيدة .. مهما كلفني الآمر ستتخلصين منها ( جففت دموعها وعادت لتبتسم بمشاكسة ) إنه يومنّا الأول في هذا العام .. سنعود للجامعة مجددًا يا للبؤس



كانت تتصنع حرّكاتٍ درامية وهي تتحدث مما جعل هيري تبتسم من أعماقها ليس متعةً بقدرما كانت امتنانًا لتلك التي لم تتركها يوم احتاجت إليها آبدًا .. آمبر صديقة العمر الوحيدة والعائلة الحقيقية بالنسبة لها .. آمبر شاطئ النجاة مَن تلجأ إليه حينما تضربها أمواج الحزن العاتية .. مدّت أصابعها الهزيلة وراحت تُزيل آثار الدموع وهي لاتزال متقعدةً الأرض .. فقط رفعت نظرها وصوّبته لها تقول بحشرجة : ولكن متى آتيتِ ؟

ردت آمبر مَن ترفع قدمها اليمنى عن الأرض وتحرّكها جيئةً وذهابًا .. وتعابير وجهها طفولية لحد كبير : منذ قليل .. سألت الخادمة عنكِ فأخبرتني أنك تتسكعين في الحديقة ( ضحكت هيري على شكلها فتقدمت خطوات وركلتها في قدمها وجراء تلك الركلة اختل توازنها وسقطت ) أيتها الـ اششش ياااا لمَ دائمًا تقومين بتلك الحركة الغبية

وضعت يدها عند خصرها وهي تبتسم بنصر : لأنك دائمًا ما تقومين بهذه الحركة البلهاء ( مدت لسانها في وجهها ) الغبية

كورت يدها ورفعتها بتهديد وهي تحاول النهوض : لي هيري إنه يوم حتفك استعدي !

صرخت بمشاكسة والتفت سريعًا راكضة داخل القصر حتى تبدل ثيابها هربًا من تلك القبضة التي بانتظارها .. أما آمبر المستلقية أرضًا اعتدلت في جلستها بدلاً عن النهوض بالفعل كما كانت تهدد هيري وربعت قدميها تنظر لهذا القصر الضخم بكرهٍ شديد تتمنى لو تسدل جفنيها وتعود تفتحهما فيكون قد اختفى بكل من فيه لربما حينها تشعر هيري ببعض الراحة .. رفعت يدها ومررت أصابعها بين خصلات شعرها القصير جدًا كما الصبية ابتسمت بحسرة .. تبًا لها بالفعل ! كيف تستطيع أن تُفكر بشخصٍ آخر بكل هذا الحب بينما هي من تحتاج العون والتفكير .. كيف تأصلتِ بأعماقي يا من تُدعين هيري ؟! من الشرفة المطلة على الحديقة وقفت السيدة أوك تُطالع المشهد من بدايته ودموعها تتساقط بدون أن تشعر بها .. لم تعرف بوجودها إلا عندما اصطدمت بكف يدها الممسك بسياج الشرفة .. رمشت عدة مرّات ورفعت أصابعها تتحسس وجنتها لتجدها بالفعل مبتلة عن آخرها بالدموع .. أزالتهم برفق وهي تُتمتم : هذه الطفلة أكثر وفاءًا وقوة مني أنا شخصيًا .. سحقًا لكِ باي أوك أيتها العجوزة الخرفة .. لن أسامحكِ مطلقًا طالما هيري ماتزال تتألم !

* * *



" تخلي عن الوصاية وكأن شيئًا لم يكن وستكون ابنتك بأمان "

" اضمني ليّ أنكِ لن تتخلصي مني حينها وتبعديني عنها تمامًا "

" أقسم لكِ بشرفي "

" أنتِ حتى لا تملكين شرفًا لتقسمي به "

رنت الكلمات في ذهنها المُشتت بقوة .. ضربت كل خلية في دماغها فأيقظتها .. برد فعلٍ على الأمر ضربت قبضتها القوية على المكتب وصرخت ناهضةً .. مسحت الأرض جيئةً وذهابًا وهي تقبض على يدها اليمنى حتى انغرزت أصابعها في باطن كفها وضربت بها كفها الأيسر المنبسط .. خطوات حزاءها ذا الكعب العال على الأرض كانت تزيد من جنون توترها .. لذا ، رفعت أناملها ودستهم في شعرها تمررهم فيه بعنف .. هذه الكلمات رغم مرور الكثير من السنوات عليها لم تطوى في ذاكرة النسيان بعد ولن يحدث .. أغمضت عينيها تزفر بغضب وتعض على شفتها .. ربما ما كانت تفكر فيه ليس هذا الأمر بالضبط ولكنه قفز لذهنها كما العادة .. تقدمت بخطوات عنيفة تضرب الأرض حيث تلك الشرفة المطلة على واجهة الشركة .. أزاحت الستائر قليلاً وألقت بنظرها ليسبح في الأفق .. حينها وصلها عدة طرقات على الباب وولج الطارق .. التفت تنظر له بعيون فارغة فانحنى بين يديها وهتف : مرحبًا سيدتي كيف حالكِ ؟ طلبتني

أماءت برأسها وأشارت له بالجلوس بعدما تقعدت كرسيها الجلدي خلف طاولة المكتب الفسيحة .. أسندت ساعديها إليه مشبكةً أصابعها معًا واسترسلت في حديثها : شهور قليلة لا تتجاوز الثلاثة وستكمل الحادية والعشرون من عمرها وتؤل بأمر المحكمة كل تلك الثروة لها ( رفعت يديها ومررتهم في الهواء وكأنها تحصي حجم الثروة بهم )

ابتسم بحنكة وهو يعدل من وضع نظارته .. ثم نزلت أنامله لسترته فأغلق آحد أزرارها : نعم سيدتي وهذا ما لا تُريدينه آبدًا


مدّت لي يونغ يدها في آحد أدراج المكتب وأخرجت كُتيب الشيكات خاصتها .. ملأت آحدهم تمامًا تاركةً خانة المبلغ فارغةً .. وضعته على الطاولة ومررته بأصابعها للسيد تاي محامي الشركة الشديد الدهاء : ضع ما يحلو لك من الأرقام هنا وخلصني من هذا الأمر

لمعت عيناه وكأنها قطعة من الماس أسفل الضوء .. ازدرد لعابه بصعوبة ومدّ يده وقبض على الورقة .. قرّبها من وجهه وهو يمسك بها من طرفيها بيديه الاثنتين ولعابه يكاد يسيل .. أغمض عينيه وأنزلها ثم نهض منحنيًا أمامها : أمهليني عدة أيام وسأعود لكِ سيدتي بخطة سترضيكِ تمامًا وتخلصكِ من هذا الآمر للآبد

ابتسمت برضا وأشارت له أن يغادر .. دس الورقة في جيبه وانحنى أمامها عدة مراتٍ بسعادة غامرة وغادر على الفور .. بينما هي أرخت جسدها تمامًا للكرسي المتحرك .. ورفعت قدمها للأخرى واستدارت لتنظر للسماء من هذا الحائط الزجاجي خلفها تمامًا كل شيء سيكون كما تريد هي أن يكون .. حتى آخر أنفاسها ستتمتع بهذه الثروة وتكون هي السيدة لي يونغ صاحبة أكبر مجموعة شركات في كوريا برمتها .. مجرد التفكير بالأمر يجلعها تشعر وكأنها حية تحلق من السعادة التى لا تعرف لها أية حدود آبدًا

* * *

عضّ هيتشول على شفته السفلية وهو يقف خلف سوجين المستغرقة في القراءة الصامتة بعينيها وحسب .. التوتر يلتهمه ويلوكه بين فكيه تاركًا إياه ممزقًا جراء الخوف الداخلي المسيطر عليه بشدة .. كان يفرك أصابعه ببعضهم وهو يزفر بقلة صبر .. توقفت سوجين ورفعت رأسها عن كومة الأوراق مما يدل على أنها انتهت وآخيرًا .. التفت بجسدها على الكرسي واستندت برأسها على مسنده وهي تقبض عليه بأناملها .. أخفض جسده لمستواها وهو يضيق عينيه في انتظارها أن تبدأ الحديث .. زفرت أنفاسها المختلطة برائحة الفانيلا على وجهه فتطايرت غرته .. ابتسمت بحب وأعلنت : أنت معجزة ! ( لمعت عيناه وشفتاه تنفرجان بسعادة تكتسي ملامحه فأكملت ) لا يُمكنني وصف سعادتي بهذه الأنامل التي ما كتبت إلا وأبدعت .. أنا من الآن أتوق لأكمل فهلّا أكملت ؟

رفع رأسه إنشًا واحدًا بعد ونظر لعينيها مباشرةً بعينيه اللامعتان وهمهم : بأبسط كلماتك تمنحينني طاقة إيجابية لا يمنحها ليّ سواكِ

 عضت على شفتها بعدما توردت وجنتيها .. ابتلعت غصتها ومدّت أناملها تتلمس وجهه بحبٍ فأغمض عينيه واستهلت أساريره .. بينما هي عادت لتكمل : ولكن في الواقع لم أفهم شيئًا .. الغموض إنه طاغٍ على الأحداث ! ثم لماذا تلك الأم بكل هذه الحقارة ؟

كانت أناملها السارحة على مسام بشرته قد وصلت بالفعل حيثُ شفتاه .. أطبق عليهم بشفتيه وقبلهم بحب شديد ولاتزال عيناه مغمضة .. مدّت سوجين يدها الآخرى وعبثت في شعره بمشاكسة ففتح عينيه ينظر لها بحب .. رفع يده وضغط أرنبة أنفها بأنامله ثم قال بثقة : حينما تكملين الرواية ستجدينها أكثر حقارة عزيزتي ( لوت شفتها في استياء وما كادت تسأل حتى التقط هو السؤال عن طرف شفتيها وأجاب عليه ) لأنهن لسن ملائكة ! دائمًا في نظر الكل بلا استثناء أن الأم كائن ملائكي هبط من السماء وفقد أجنحته وتنازل ليتعايش مع البشر .. ليس سيئًا آبدًا ولا يخطأ .. قد تكون هكذا الغالبية العظمى رغم أنهن يخطئن فهن في النهاية بشر ولكن لكل قاعدة شواذ والسيدة لي يونغ أكبر شواذ هذه القاعدة

أومأت سوجين متفهمةً لما أراد إيصاله عن طريق هذه الرواية ثم قالت بتساؤل : متى ستكمل ؟

ابتسم ملء شدقيه وهتف بعدما قفز واقفًا والتقط كومة الأوراق ملقيًا إياها على الأرض متسطحًا عليها هو الآخر ببطنه : الآن !

* * *

أنهت الفتاتان المحاضرات المهمة في يومهما الأول .. وعلى عكس التوقع كان يومًا شاقًا وليس باليسير مطلقًا .. خرجتا من قاعة الدوام لتلقيا بنفسيهما على أقرب طاولة في حديقة الجامعة الفسيحة .. أرخت هيري جسدها على الكرسي تمامًا وهي تمد لسانها كالجرو اللطيف .. بينما آمبر عكست وضع الكرسي واستندت ببطنها إليه وهي تضع رسغيها على حافته من الأعلى وترسل ضحكات منهكة على مظهر هيري المثير للضحك .. ضيقت هيري عينيها وأمسكت زجاجة المياه الموجودة على الطاولة مهددةً بها آمبر : يااا توقفِ عن السخرية مني ( تنحنحت آمبر بتوجس من هذا التهديد الرهيب وبترت ضحكاتها فعادت هيري تتساءل ) ولكن بالله أين سيونغري لم أره اليوم ؟

لوت آمبر شفتيها في استياء كبير وهي ترفع حدقتها للأعلى بانزعاج : سحقًا له .. ألن تتوقفي عن ذكره مطلقًا ؟ أو السؤال الأفضل .. ألن تتوقفي عن صداقته ؟ ها قد عدنّا مجددًا ! أكره الدراسة ففيها تقربه منكِ يكون مقززًا .. بالله عليكِ هيري ابتعدي عنه !

تثاءبت بملل شديد وهي تقول بتهكم : أنتِ لا تملين من هذا الحديث !

صرّت آمبر على أسنانها وهي تقول في مرارة : إنه سبب بلاءكِ


ابتسمت بسخرية وهي تشعر بنغزاتٍ مؤلمة في قلبها .. وكأن أشواكًا مُدمية تنغرز فيه بلا رحمة .. لتخرّ هي ميته بهدوء مريع ويؤيد الموت ضد مجهول .. فلا هي ماتت لجريمة قتل يمكن حصر أدلتها واستنباط القاتل من خلالها .. ولا هي أيضًا ماتت بالفعل هكذا وحسب .. لكل شيءٍ في هذه الحياة سبب ومفتعل .. بعض الأشخاص يُفقدوننا بشريتنا ونخسر الحياة بسببهم .. نعيش بلا هدفٍ سام ولا رغبة لنا في الإكمال .. مع أول فرصة سنستسلم للموت ويكون هذا الاختيار هو الوحيد بإرادتنا في الحياة .. سنقف على حافة الموت بابتسامة عابثة ترفض من أعماقها توديع الحياة .. فهي حتى لا تستحق طقوس رحيل .. نفرد ذراعينا كطائر له كامل الحرية في الارتفاع ومغادرة الأرض وكر الآلم .. نركض بسرعة والهواء يحملنا لنرتفع للأعلى .. حيث تسمو روحنّا وتحلق بينما جسدنا يسقط متلاشيًا في التراب ساخطًا على استمرارية وجوده رغم أنه تآلم بمقدار الروح تمامًا .. فيصبح حتى الموت هنا غير مرضٍ آبدًا لسنوات من الآلم بلا انقطاع .. مجرد التخيل يجعلنا نتراجع لتسقينا الحياة من كأس الشقاء خاصتها المزيد وكأنما هو عقابٌ لنا لمجرد تفكيرنا بإجبارها على أمر كان لنا مطلق الحرية في عمله دون قيود الماريونيت خاصتها .. تألم دماغها بشدة وهذه الأفكار تضرب بعقلها وتلاطم تلافيفه المنهكة من الأساس .. نهضت عن كرسيها وخطت بهدوء كهدوء الموت عندما يحاول التسلل لاختطاف آحدهم .. مغلقة العين بشدة تهتز يدها عند جانبيها أثناء سيرها .. أفكار سوداوية وطنين أفقدها السمع .. فلم تستمع لنداءات آمبر المستغربة حالتها الفجائية .. تألمت روحها بما فيه الكفاية منذ رحيله .. رحل مبكرًا لتجد نفسها في حلبة مصارعة وعليها خوض الجولة الأولى والآبدية ضد الحياة وحتى الانسحاب لم يعد أبسط حقوقها كما هي القوانين دائمًا .. فمقاتلتها الشرسة لا تعترف بالقوانين .. تساقطت دموعها وهي تشعر بالخدر في جسدها كاملاً بدأت خطواتها تتعثر وكأنها ستنكب للأمام وتسقط .. الآمر مألوف يحدث دائمًا .. إنها طقوس يحدثها عقلها ليرغمها على الركض خلف النشوة المؤقتة التي توقف سيلان هذه الأفكار له .. كفى ! كانت تلك الكلمة التي صرخت بها أعماقها متوسلة إياها للتوقف .. نشوة مزيفة وجهها القبيح يقبع خلف قناع الراحة المبتسم طوال الوقت .. جرعة واحدة بعد .. هكذا همهم عقلها الذي يكاد الصداع يفتك بفصيه .. جرعة واحدة آخرى ستؤدي للموت ليصبح ضمنينًا هو الآخر ليس باختيارها .. كلا لن يحدث هذا مطلقًا ستقف هذه المرة بشراسة لبوة تكشف عن براثنها للحياة ذات الجمال المزيف .. ستدافع عن حقها الوحيد في الاختيار .. بأي حال هي ستموت ولكن حينما تود هي ذلك .. وهذا هو الشيء الوحيد الذي ستدافع عنه في الحياة ستدافع عن حقها في اختيار الموت .. رفعت رأسها بصعوبة وهي تحاول إيقاف قدمها .. ثانية واحدة وشعرت برأسها يصطدم بحنك آحدهم .. تآلمت تحاول استيعاب الأمر .. لتجد نفسها أولاً قد اصطدمت بصدره الممشوق وحالما رفعت رأسها صدمت حنكه ..


اندفعت للخلف بسرعة تنظر بعينين جاحظتين .. وأصابعها فوق رأسها تتحسسه .. أما من اصطدمت به وقف يتأوه وهو يحرك فمه من برزت الدماء منه عند حافة الشفة السفلية .. سرعان ما أخرجت من جيبها منديلاً وانحنت عدة مرات معتذرة ثم اعتدلت تمامًا ومدت يدها التي تمسك بالمنديل له .. رمش عدة مرات وهو يحدق بها مذهولاً مما يرى .. دقات قلبه تكاد تسابق هبوب الرياح في يومٍ عاصف أقتلع حتى الأشجار الراسية .. لم يتحرك وكأنه تجمد كالتمثال بلا روح .. كانت هذه أبسط ردود الفعل من توقع ما يفوقها بمراحل .. تقافزت الصور لذهنه بعرضٍ مشوش ورؤية باهتة وكأنها شريط فيلم من الثلاثينيات بهت للغاية وكاد أن يُفقد وكم تمنى لو يفقده للآبد بلا عودة .. ولكن ها هي للمرة الألف تأتي الرياح بما لا تشتهيه السفن .. الصور كانت تمر من أمام عينيه بسرعة مشجعةً دموعه على القفز من مقلتيه إلى خده .. صراخات داخلية كادت تصم أذنه بـ لا أريد ! ما حدث يكفي .. توقفِ الآن ليس مجددًا ليس مجددًا .. مد يده وقبض على معصمها بقوة كادت تهشمه بين قبضته .. شهقت بخوف وسقط المنديل من يدها ليترنح في الهواء ثم يستقر أرضًا كما روحها الخائفة الآن من نظراته من تشبه ثورًا على وشك الهياج وتحطيم عظامها وهي فقط التي توجد معه بمفردها في حلبة اللعبة .. ارتجف جسدها وهي تحاول تحرير يدها التى آلمتها بشدة وصبغ ذراعها كاملاً باللون الأزرق وكأن لا ذرة دمٍ فيه .. تلاشت أنفاسه ببطء وأغمض عينيه بتعب وكأنه على وشك فقد الوعي .. أرخى أصابعه فسقطت من بينها يد هيري التي سحبتها فورًا وأخذت تتحسسها بتألم .. رفع يده بحركةٍ بطيئة كأنه عرض مسرحي وفرد أصابعه الخمسة وهو يتمتم : لـ لقد شعرت بها ( تساقطت دموعه بغزارة ) إنها ! لقد عادت !

التف في سرعة وهو يتمتم بذات الكلمات .. لا .. مستحيل .. هذا يكفي .. وسلّم ساقيه للرياح .. أخذ يركض بلا هوادة لوجهة لا يعرف أين تقع من هذا الكوكب الكبير .. يود لو يهرب من نفسه قبل أي شيء .. نفسه التي تألمت بشدة .. تحطمت دفاعاته كلها وانهارت لتصبح أنقاضًا فوق جسده المسجى تحتها .. سيهرب ! ولكن كيف سيهرب من الوهم ؟؟

لمحه هنري وهو يركض بحالة مزرية نحو سيارته .. ناداه عدة مرات ولكن لم يجب أو يتوقف فهو من الأساس لم يسمعه .. قطب حاجبيه في تعجب وركض ليتبعه .. حالما وصل كانت سيارة ليتوك قد تحركت بأقصى سرعتها .. شهق هنري بخوف ماذا يفعل هذا المجنون ؟ أما ليتوك الذي يضغط بكل قوته على منظم السرعة أسفل قدمه لم يكن يشعر بشيء حتى سوى أنه عليه فقط أن يهرب .. لعالمٍ آخر لو استطاع .. جسده يهتز والضوضاء بداخله كادت تفتك به .. ذكريات حاول محيها وحذفها نهائيًا تعود الآن لتعرض نفسها عليه بسعادة المنتصرة .. توقفت السيارة حيث منزله .. مدّ يده لفتح بابها كي يترجل منها ولكن أعصابه المنهارة لم تستطع الضغط على المقبض حتى .. أعمته الدموع الساخنة عند جفنيه عن الرؤية فصرخ بكل قوته وضرب الباب بقدمه عدة مرات حتى عادت قوته واستطاع تمالك أعصاب يده وفتحه .. خرج منها مترنحًا حتى أنه سقط عند أعتاب المنزل .. نهض متشبثًا بالباب .. أدخل أرقامه وركض حيث غرفته .. أغلقه خلفه .. النافذة والأضواء حتى أنه أسدل الستائر .. التصق جسده بالجدار وأنفاسه المتعثرة تعزف سمفونية ألم مريعة وصدره يعلو ويهبط .. وكأنه كان يركض لأزمانٍ سحيقة .. يتلفت حوله وهو يصدر أنينًا يحاول طمأنت نفسه بأن الوحش الكاسر ليس هنا .. لم يدخل وراءه للغرفة لم يتبعه .. كاد يهدأ أغمض عينيه وحبات العرق تشخب من بين شعيرات رأسه .. ولكن صوتًا زلزل كيانه ضرب بعقله وصداه يتكرر بضجيج عالي وضع يده على أذنه يصرخ كفـــى ! فقدت قدمه القدرة على حمله فسقط جسده بقوة ارطدام عنيفة .. ظلّ يصرخ كمن أصابه مسّ وهو يرى ما حدث منذ البداية ...

تبعها بخطوات خفيفة يكاد الفضول يقتله رغم أنه لم يكن فضوليًا يومًا .. ظلّ يسير خلفها وهي التي لم تتوقف لمدة طويلة إلا عند شاطئ البحر .. الأمواج تتلاطم مصدرةً صوتًا عاليًا .. بعنفوان رهيب تضرب بعضها حتى تتحطم على الصخور فاقدةً كل جباروتها السابق .. قطرات المياه تتراشق على ملابسها وهي الواقفة أمامها مباشرةً ترتجف بفعل البكاء .. توقف خلفها يسمع أنين بكاءها يضغط قبضة يده ولا يعرف لمَ تألم لأجلها .. شهق واتسعت عيناه عندما تحدثت وهي لاتزال تنظر للبحر أمامها : لماذا تتبعني ؟

تلعثم لا يعرف ماذا يقول .. حرّك قدمه اليسرى يحفر بها في الرمال وهو يمسح على شعره بتوتر : في الحقيقة لقد .. آشش لا أعرف فقط تبعتكِ دون أن أشعر !

التفت تنظر له بعيونها المتقرحة جراء البكاء الحاد الذي كانت فيه منذ لحظات .. مدت أصابعها تزيل آثارهُ وهي تقول بصوتٍ مرتجف : من أنت ؟

ردّ بسرعة مرتاحًا لأنها لم تتشاجر معه على إفساد خصوصيتها باتباعها وقت بكاءها : بارك جونغسو .. أدعى بارك جونغسو لكن ناديني ليتوك .. وأنتِ ؟

أمالت رأسها تنظر له كالجرو وهي تحرك رموشها المبتلة .. كانت تهمس بالاسم عدة مرات ثم ضحكت بخفة ومدت طرف لسانها وهي تمد يدها أمامه .. نظر لها فوجد أكمامها قد تجاوزت يديها كما الطفلة .. ضحك على شكلها وفهم مرادها اقترب منها وأمسك يدها وبدأ في تشمير أكمامها لتعلن هي بنبرةٍ مريحة : اسمي لي هيري !!!

* * *

وضعت آمبر يدها على كتف هيري الواقفة بذهول لاتزال تتحسس معصمها وهي تحاول استيعاب الأمر .. كادت نظرات هذا الغريب تجمد الدماء بعروقها .. التفت لها بفزع فربتت على كتفها لتطمأن وهمهمت : هل تعرفينه ؟

حركت هيري رأسها بالنفي وهي تقول بتعجب : لم أره في حياتي قبل اليوم !

وكم كانت صادقة في حديثها .. لي هيري بالفعل في حياتها لم تلتقِ بهذا الشخص !!!







ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق